صاحب أطول إضراب عن الطعام في العالم، عاد منتصراً إلى قريته العيساوية في القدس المحتلة. «الأخبار» التقت الشاب المناضل في منزله، ليحكي رحلة المقاومة الشاقة التي خاضها طوال تسعة أشهر، قبل أن يخرج إلى الحرية رغماً عن أنف السجّان...
لنا أن نتخيّل حال المستوطنين على جبل المشارف في الجامعة العبرية المُطلة على قرية العيساوية في القدس المحتلة والمستوطنة المقامة على حي المشارف المعروفة اليوم باسم «التلة الفرنسية» المجاورة للعيساوية وهم يراقبون مهرجانات الاحتفال بالعودة الثانية للأسير سامر العيساوي. لقد عاد صاحب أطول إضراب عن الطعام في العالم منتصراً إلى بيته، رغم محاولة الاحتلال اليائسة بمنع «إظهار الفرحة» وما صاحبها من تأخير الإفراج عن العيساوي لما يقارب عشر ساعات يوم الاثنين الماضي، ونصب عدد من الحواجز العسكرية في محيط البلدة. وكيف يَملّ الشباب والأمهات من انتظار عودة المنتصر؟
بعد تسعة أشهر على إضرابه عن الطعام في معركة الأمعاء الخاوية، أصرّ الأسير المحرّر سامر العيساوي على عدم خسارة الإنجاز الكبير الذي حققته حركة «حماس» وشمله في صفقة «الوفاء للأحرار» في تشرين الأول (أكتوبر) 2011 التي تضمنت الإفراج عن 1027 أسيراً فلسطينياً مقابل إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، وفاءً منه لأولئك الذين ضحوا بأرواحهم خلال التخطيط وتنفيذ عملية الخطف، رافضاً أن يكون مفتاحاً لإعادة اعتقال الأسرى المحررين في عملية التبادل، وإدانتهم بفترة محكومياتهم السابقة وكأن شيئاً لم يكن.
خلال سنوات الانتفاضة الأولى حتى منتصف التسعينيات؛ بدأ سامر العيساوي (1979) مسيرته في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي بحرق سيارات للمستوطنين وإلقاء الزجاجات الحارقة والحجارة وغيرها من «الأشياء الخفيفة» كما يقول في حديثه لـ«الأخبار». كان يحرص على عدم تعرّضه للاعتقال ليساند عائلته في تلك الفترة التي كان فيها إخوته الأربعة رأفت، ومدحت، وفراس، وفادي في المعتقل إلى أن استشهد أخوه فادي العيساوي خلال المواجهات التي اندلعت في العيساوية إثر مجزرة الحرم الإبراهيمي في رمضان عام 1994. يومها، رأى سامر شقيقه يسبح بدمائه «ففرطت المسبحة» على حد تعبيره.
كان الاعتقال الأول له عام 1998 لسنة ونصف السنة بتهمة إلقاء زجاجة «مولوتوف»، ثم ستة أشهر على خلفية ضرب جندي اسرائيلي، ومرة أخرى لـ15 يوماً مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000. واعتقل للمرة الرابعة لستة أشهر احترازياً من دون ثبات أي تهمة عليه. «تصاعدت الهجمة العسكرية الإسرائيلية في هذه الفترة من الانتفاضة الثانية على الفلسطينيين، وبدأ يُسمع عن قصف الطائرات لقطاع غزة» يقول سامر الذي التحق بعد اليوم الأول من الإفراج عنه بالجناح العسكري لـ«الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» وشكّل مع رفاقه خليّة صغيرة من خمسة أفراد نفذت نحو 11 عملية إطلاق نار على مركبات إسرائيلية في شارع مستوطنة «معالي أدوميم» الواقعة على بعد سبعة كيلومترات شرقي القدس. حققت أغلبية هذه العمليات إصابات ماديّة وأدت إحداها إلى إصابة ضابط إسرائيلي، حتى اكتشف الاحتلال دور سامر في الخلية فلاحقه لمدة عام كامل بين رام الله والقدس إلى أن اعتقل خلال عملية «السور الواقي» عام 2002 في رام الله.
رفض سامر المثول أمام محكمة «بيت إييل العسكرية» كما رفض حضور المحامي بسبب عدم اعترافه بالمحكمة التي كان يشبّهها للقُضاة بأنها «كَرَفان متنقل» يجرّونه معهم في أي أرض يحتلونها. حُكم على سامر بالسجن 30 عاماً. لم يفاجأ المناضل الشاب، فمعدل الأحكام في قضايا مُشابهة لم يقع فيها إصابات، كانت المؤبد كما يُعلِق. يقول سامر إنّه كان على ثقة بأنه لن يقضي فترة محكوميته. قال للقاضي يومها: «راح أطلَع قبل الـ30 سنة» ليرد عليه القاضي ساخراً «ابقَ خليني أشوفك لما تِطلع»، ليُفرَج عن العيساوي ضمن صفقة «الوفاء للأحرار» بعد نحو عشرة أعوام على اعتقاله.
أعادت سلطات الاحتلال اعتقال العيساوي في السابع من تموز (يوليو) 2012 خلال التحقيق الذي استمر ثلاثين يوماً وجِّه إلى العيساوي خلالها تهمة التخطيط لخطف جنود، وتخللتها وعود مسؤول جهاز المخابرات الإسرائيلية في الضفة والقدس «الشاباك» للعيساوي بأنه سيعود ليكمل فترة محكوميته المتبقية (20 عاماً). أدرك سامر حينها أن المسألة «جَديّة» على حدّ تعبيره، ولن تمُر بتحقيق ليوم أو يومين. هكذا، بدأ بتاريخ 27 تموز (يوليو) بإعادة وجبتين والاكتفاء بواحدة كان يفطر عليها في رمضان خلال تلك الفترة وهي عبارة عن «شرحتي خُبز وملعقة لبنة وملعقة مُربى». استمر على هذا الحال لتسعة عشر يوماً، ونقل بعدها إلى «سجن نفحة». وبدءاً من 24 آب (أغسطس)، بدأ بتهيئة جسده للإضراب المفتوح. حينها، سَلَّم رسالة مكتوبة لمصلحة السجون يُطلعها فيها على تصعيده، إذ كان يكتفي بكأس من العصير وأخرى من الحليب وكأس ثالثة من الشوربة، حتى أعلن إضرابه المفتوح يوم 14 أيلول (سبتمبر) الذي تخللته اضرابات متفرقة عن الماء أيضاً حتى توصل العيساوي إلى اتفاق في نيسان (أبريل) الماضي يقضي بعودته إلى القدس بعد ثمانية شهور من تاريخ الاتفاق.
تعددت أساليب الضغط التي اتبعتها سلطات الاحتلال على سامر بهدف إرهاقه ليتراجع عن إضرابه المفتوح منذ الرابع عشر من أيلول وقبله. كانوا ينقلونه طوال شهر كامل في حافلات نقل الأسرى (البوسطات) إلى المحاكم أو السجون الأخرى وما يسبقها ويصحبها من ساعات انتظار طويلة حتى يتجهز السَجّان ويأكل ويرتاح من عناء الطريق، إضافة إلى هدم منزل أخيه مدحت العيساوي، والاعتداء عليه وعائلته بالضرب خلال إحدى جلسات المحاكمة رغم تردّي حالته الصحيّة، إذ بلغ وزنه وقتها 45 كيلوغراماً. بعدها، مرّ بمراحل صحيّة حرجة للغاية جعلته عاجزاً حتى عن النوم. يقول لنا: «لو نمت على جانبي الأيمن، أتَخَدر والأيسر كذلك. لم أستطع النوم على صدري بعد كسر إحدى عظامي».
ويتابع: «كلما كانت تصلني أخبار عن مشاركة أبناء شعبي والأحرار في العالم في هذه المعركة، كنت أنسى آلامي خصوصاً بعد استشهاد الشابين محمود الطيطي ومحمد عصفور اللذين لم أكن أستطيع أن أقدم لهما شيئاً سوى إصراري على الأهداف التي وضعناها سوياً للإضراب، إضافة إلى وصول الشباب في القدس ليتظاهروا للمرة الأولى قبالة محكمة الصلح الاحتلالية «عش الدبابير». الغيظ الذي رأيته في عيون السَجانين يومها بعد سبعة أشهر على الإضراب، أكّد لي أنّ أهداف الإضراب بإيصال صوت الأسرى وفضح الانتهاكات التي يمارسها الاحتلال بحقهم وانتهاكاته لصفقة تبادل الأسرى وصون كرامة الشعب الفلسطيني تحققت ولم يبق منها سوى عودتي إلى بيتي».
وعن الموقف الرسمي الفلسطيني يقول سامر لـ«الأخبار»: «لنكن واقعيين، جميعنا كفلسطينيين نتنقل بموافقة إسرائيلية من رئيس السلطة إلى أي مواطن عادي. نحن لا نُعَول على الموقف الرسمي بقدر تعويلنا على الإرادة الشعبية التي تضغط وتتحرك لتجبر السياسي على اتخاذ خطوات أكثر جديّة. حتى المفاوضات يمكن أن يوقع عليها المفاوض الفلسطيني لكنها لن تكون نافذة على أرض الواقع إن لم يرافقها تأييد شعبي».