اليوم هو اليوم الأخير من عام سيئ، يمكن أن نسميّه من دون تردد "عام إعادة تجريب المجرب"، وذلك بعد استئناف المفاوضات بشكل أسوأ من المفاوضات السابقة، بالرغم من الحصول على القرار الأممي بالاعتراف
بالدولة المراقبة، الذي كان يفترض عدم الموافقة على استئناف المفاوضات من دون الاعتراف الإسرائيلي بهذه الدولة وحدودها، بحيث يكون التفاوض لتطبيق هذا القرار وغيره من القرارات الدوليّة، وليس التفاوض عليها في ظل موقف إسرائيلي ينطلق من أن الأراضي الفلسطينيّة "محررة" وليست محتلة، وجزء من أرض إسرائيل.
كان حصاد العام 2013 مُرًّا بامتياز، باستثناء الإفراج عن قسم من الأسرى القدامى مقابل ثمنٍ باهظٍ تجسّد بتجميد التوجه إلى الأمم المتحدة، واستمرار أشكال من الصمود والمقاومة المتفرقة والمحليّة، وأشكال من المقاطعة لإسرائيل التي في معظمها من حركة التضامن الدوليّة. فقد شهد العام الماضي تصاعدًا محمومًا وغير مسبوق في توسيع الاستيطان، وفي استهداف القدس، وبشكل خاص الأقصى، وتكثيف الحصار على قطاع غزة، واستمرار تعميق الانقسام والتشظّي أفقيًا وعموديًا من دون قيادة واحدة ولا برنامج واحد وفي ظل غياب المؤسسة الجامعة.
والأنكى والأمرّ من كل ما سبق، أنّ العام 2014 من المحتمل جدًا أن يكون حاسمًا، وأسوأ من سابقه في حال فُرض على القيادة الفلسطينيّة قبول حل انتقالي جديد بمسميات جديدة، مثل "اتفاق إطار" أو "حل نهائي" يطبق على مراحل، ولكن هذا ليس قدرًا محتومًا لا رادّ له، بل يمكن رفض أي اتفاق لا يستجيب للحقوق الفلسطينيّة مهما طال الزمن وغلت التضحيات، لأن أي بديل آخر أكثر ثمنًا.
أسوأ ما في الأمر كله أن الرهان لتجنب التوصل إلى اتفاق سيئ يكاد أن ينحصر في "وطنيّة إسرائيل"، أي الرهان على قيام الحكومة الإسرائيليّة المتطرفة بإفشال خطة كيري، الذي يحاول إنقاذ إسرائيل من نفسها بالتوصل إلى اتفاق يمنحها مكاسب جديدة، وهي ترفض ذلك لأنها تعتقد أن بمقدورها تحقيق مكاسب أكبر من دون اتفاق جديد يفرض على إسرائيل إعطاء الفتات للفلسطينيين حتى يمكن تمريره عليهم.
في حالة عدم تمكن إدارة أوباما من إقناع إسرائيل بإدراك مصالحها الكامنة في توقيع اتفاق جديد، يتضمن تنازلات فلسطينيّة مغطاة عربيًا، في ظل الوضع العربي الذي لا يسرّ صديقًا ويفرح كل الأعداء، فإن السيناريوهات المحتملة الأخرى، في حال فَشِلت المفاوضات الحاليّة، لا تنحصر في تدهور الموقف وعودة المواجهة الفلسطينيّة الإسرائيليّة، بما في ذلك تصاعد المقاومة التي ربما تتحول إلى انتفاضة، وإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنيّة، والتوجه إلى الأمم المتحدة، والمقاطعة، ومطالبة المجتمع الدولي بفرض إرادته على إسرائيل كما يفعل مع بقيّة دول العالم.
إن السيناريو الأقرب إلى الحدوث في هذه الحالة هو تمديد المفاوضات مع تقديم بعض الحلوى المسمومة، المتمثلة في تطبيق كل أو جزء مهم من خطة كيري الاقتصاديّة من دون اتفاق سياسي، وفي تطبيق الإجراءات التي تسمى إجراءات "بناء الثقة"، التي تستهدف إبقاء الفلسطينيين في المسار نفسه الذي أوصلهم إلى ما هم فيه. مسار الانتظار القاتل والاكتفاء بالعمل تحت سقف تحسين شروط الحياة تحت الاحتلال بدلاً من الكفاح لإنهاء الاحتلال.
إن أهم ما يحاول أن يحققه كيري هو الاستعداد لتطبيق الخطة (ب)، وهي معدّة لمنع تدهور الموقف في حالة عدم التوصل إلى اتفاق وفقًا للخطة (أ)، التي تتضمن أولاً السعي للتوصل إلى "اتفاق نهائي" أثبتت المفاوضات استحالة الوصول إليه، وثانيًا "اتفاق إطار" يُدخل الفلسطينيين في عمليّة سياسيّة طويلة من دون أن يحققوا أيًا من حقوقهم، بينما تحقق إسرائيل على دفعات مطالبها ومطامعها الاستعماريّة والاستيطانيّة والعنصريّة.
لا توجد مبالغة في هذا الاستنتاج على الإطلاق، فما يطرحه كيري يستجيب لمطالب إسرائيل حول الأمن و"يهوديّة" إسرائيل والقدس واللاجئين والاستيطان وغير ذلك، مقابل تغيير اسم السلطة إلى "دولة" من دون حدود ولا سيادة، وهذا أسوأ ما يمكن أن يحدث، لأنه يظهر تعايش الضحيّة مع واقع الاحتلال واستعدادها للعمل ضمن سقوف سياسيّة منخفضة في ظل مواصلة عمليّة الخداع والطمس لطبيعة الصراع، من خلال تصويره على أنه نزاع على الحدود والتفاصيل، وليس بين الاحتلال والشعب الواقع تحت الاحتلال، وأنه يمكن حله بين الإسرائيليين والفلسطينيين من دون تدخل من أحد، وذلك حتى تتمكن إسرائيل من الاستفراد بالفلسطينيين، واستكمال تطبيق مخططاتها التي تقطع الطريق على تحقيق المطالب والحقوق الفلسطينيّة.
في ظل حالة الوفاق الإقليمي والدولي في المنطقة الآخذة في التبلور بعد الاتفاق على "الكيميائي" السوري وعلى عقد جنيف (2)، في محاولة للتوصل إلى حل سلمي للاحتراب السوري، والاتفاق على حل مرحلي للملف النووي الإيراني ضمن تفاهمات على حل نهائي بعد ستة أشهر، وإذا استمرت هذه الحالة من التوافق التي تلعب فيها كل الأطراف الإقليميّة والدوليّة أدوارًا فاعلة تحاول أن تحقق فيها أقصى ما يمكن من مطالبها، باستثناء اللاعب العربي الذي يبقى غائبًا رغم أن اللعب كله يجري على أرضه وفي ملعبه وعلى حسابه.
من الصعب جدًا السماح للعرب بتخريب حالة التوافق تلك، لأنهم ضعفاء وفي حالة اقتتال، وهم في محاور مختلفة حتى في داخل بلدانهم، حيث دخلت سورية والعراق وليبيا والسودان في أشكال من التقسيم والانفصال والحرب الأهليّة، بينما تقف بلدان أخرى، مثل لبنان، منذ سنوات على حافة الحرب الأهليّة التي يؤخرها بالرغم من توفر كل عوامل اندلاعها الخبرة المريرة للحرب الأهليّة السابقة التي استمرت 15 عامًا، وانتهت إلى معادلة "لا غالب ولا مغلوب".
أما مصر فهي الجرح الأكبر والأمل الأكبر، وتبدو كلما خطت خطوة إلى الأمام بعد ثورة 25 يناير تشدّها عوامل القديم إلى الوراء، بحيث لا نبالغ في القول إن مصير المنطقة برمتها يتوقف على ما يجري في مصر، وهل ستدخل في نفق الحرب الأهليّة أم ستسير في طريق الخلاص؟، طريق الاعتراف بكل القوى والتيارات في إطار دستور ديمقراطي من دون إقصاء لأحد، والاحتكام إلى الشعب عبر انتخابات دوريّة عامة، وعلى كل المستويات، تسمح بمشاركة الجميع بلا استثناء إلا الذي يستثني نفسه بنفسه.
هناك طريق آخر يمكن سلوكه إذا توفرت الإرادة والضغوط اللازمة، وهو يدمج ما بين الدفاع عن الاستقلال الوطني والديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة بعيدًا عن التبعيّة والاستبداد والفساد والطائفيّة. طريق يجمع كل التيارات على أسس جامعة وقواعد واحدة تجسد القواسم المشتركة من دون إقصاء كل تيار للتيارات الأخرى على أساس الزعم بأنها إقصائيّة. لقد جرب هذا الخيار ولم ينجح لأن الشرعيّة الحقيقيّة لأي نظام لا تتوفر إذا لم يتسع لمشاركة المكونات الأساسيّة لشعبه.
أعرف أن هذه مهمة صعبة التحقيق وتحتاج إلى وقت، ولكن تكلفتها والوقت الذي تحتاجه أقل من الخيارات الأخرى، كما دللت تجارب العقود الماضية على ذلك، حيث جربت فيها مختلف الخيارات، فقد كانت ثورة عبد الناصر عظيمة لإنجازاتها الوطنيّة والاجتماعيّة، ولكن غياب الديمقراطيّة أدى إلى الفساد والإهمال، وإلى هزيمة حزيران التي غيّرت وجه المنطقة وما زلنا ندفع ثمنها حتى الآن، كما أن غياب الديمقراطيّة أدى إلى غياب المؤسسات، ما جعل رحيل عبد الناصر إيذانًا برحيل "التجربة الناصريّة"، ودخلت مصر بعدها في "مرحلة السادات"، ومن ثم في "التجربة المباركيّة" التي كانت استمرارا سيئًا لها. كما جربت مصر حكم الإخوان وكان عام واحد كافيًا لتبيان أنّ الاستحواذ على الحكم والدستور لا يديم حكمًا وسرعت في سقوطهم.