سياسة الأمر الواقع والخطوة خطوة التي تنفذها مجموعات المستوطنين الإرهابية بدعم من حكومة نتنياهو، من أجل تغيير الوضع القائم في الحرم القدسي، عبارة عن مجموعة من الشرارات المتراكمة التي ستنتهي في لحظة ما بحريق كبير... وإعادة صياغة خارطة الاحتلال السياسية.
إن ما تقوم به حكومة نتنياهو بمثابة لعبة تكسير عظم، تستغل خلالها انشغال العالم العربي والإسلامي بقضاياه الداخلية، ابتداءً من الاقتتال والتدمير الجارف، وليس انتهاءًً بالنزاعات الاقتصادية والاجتماعية وحتى العرقية، ولكنها لا تعلم أن العظم الفلسطيني أصلب من أن ينكسر، وإن حصل فإنه قادر على الاستشفاء بأسرع مما تتوقع حكومة المستوطنين.
المشاعر الدينية أخطر من أن يحدد لها خطوط، وبالتالي حاول الاحتلال منذ العام 1967 أن يبقي على واقع محدد يتاح من خلاله لدائرة الأوقاف الإسلامية السيطرة على الحرم القدسي وتحديد من يدخل أو يخرج منه على أساس أنه مسجد إسلامي. واقتصرت المطالبة اليهودية على حائط البراق "المبكى"، الذي قامت حكومة الاحتلال بتغيير طابعه الجغرافي والديمغرافي منذ اليوم الأول للاحتلال، فهدمت مئات البيوت الفلسطينية في حارة المغاربة وهجّرت سكانها، وغيّرت ملامح المنطقة بشكل كامل، بل وأبعد من ذلك، أقامت حيّاً استيطانياً داخل البلدة القديمة ملاصقاً لأسوار الحرم القدسي.
سرعان ما تغيرت خارطة التوازنات بعد إحراق المسجد الأقصى في 2181969 على يد أسترالي متصهين هو الإرهابي مايكل دينيس روهين، ما أدّى إلى اندلاع تظاهرات غاضبة عمّت العالم العربي والإسلامي، رغم أن رئيسة الوزراء الإسرائيلية في حينه غولدا مئير ذكرت أنها لم تنم تلك الليلة؛ لأنها اعتقدت أن الحرب ستندلع على مختلف الجبهات وستتجاوز الدول الحدودية... ولكن تمكنت القيادات العربية من امتصاص ردة فعل الجماهير ببيانات ولقاءات أسفرت بعد ذلك عن إنشاء المؤتمر الإسلامي، عقب اجتماع الرؤساء والزعماء والملوك العرب والمسلمين في الرباط.
لم تتوقف "إسرائيل" ومستوطنوها عن المسّ بالمسجد الأقصى، وكانت الخروقات والاعتداءات تتم بشكل موسمي متباعد على يد فرد أو مجموعة من الأفراد، وكان يحظر على اليهود دخول الحرم القدسي وفق قاعدة دينية يهودية.
خلال السنوات الثلاث الأخيرة بدأنا نلاحظ تغيراً جوهرياً في سياسة حكومة الاحتلال، من أجل تطبيق فكرة التقسيم الزماني والمكاني على الحرم القدسي بدعم من التيار اليهودي الصهيوني، ضارباً بعرض الحائط الفتاوى الدينية اليهودية الأصولية التي تحرم دخول الحرم حتى بلافتات موضوعة على مدخل باب المغاربة.
فكرة التقسيم الزماني والمكان ليست جديدة على حكومة الاحتلال، فقد طبّقت هذه السياسة في الحرم الإبراهيمي بمدينة الخليل، على إثر المجرزة التي قام بها أحد مستوطني "كريات أربع" وراح ضحيتها عشرات المصلين في صلاة الفجر خلال شهر رمضان. وبدل أن يكون القرار ترحيل المستوطنين المجرمين من البلدة القديمة في الخليل، ومنعهم من الوصول إلى الحرم الإبراهيمي، تمت مكافأة السفّاح بتقسيم الحرم الإبراهيمي بين اليهود والمسلمين. ورغم الاحتجاجات المحدودة في حينه، فإن سلطات الاحتلال نجحت في تثبيت سياسة الأمر الواقع، بل أضافت إلى ذلك مجموعة كبيرة من العراقيل أمام المصلين المسلمين، وبالتالي أفرغت الحرم في معظم الأوقات من المصلين، إلاّ في صلاة الجمعة والتي يواجه فيها المصلون كثيراً من الاعتداءات والتنغيص، وخاصة الشباب.
في الحرم القدسي، بدأت لعبة حكومة المستوطنين برئاسة نتنياهو، بإدخال مجموعات محدودة من المستوطنين على أساس أنهم سيّاح أجانب، وحددت لهم مساراً معيناً لا يستطيعون تخطّيه، وبعد ذلك وسّعت الدائرة، فزادت عدد المشاركين في المجموعات والحراسة عليهم. وتطوّر الأمر إلى توسيع دائرة الأماكن التي يسمح لهم بالسير فيها، وبعد ذلك بدأ البعض منهم يتجرّأ على إقامة صلوات تلمودية، سرعان ما تنتهي لدى تدخل المرابطات والمرابطين في المسجد.
في الأشهر الأخيرة بدأ التقسيم الزماني والمكاني أكثر وضوحاً، ففي ساعات الصباح تمنع المرابطات من دخول الحرم القدسي، ويمنع الشباب كذلك، ولا يسمح بدخوله إلاّ لقلة قليلة من المسنّين، في حين يسمح لمجموعات كبيرة من المستوطنين بتدنيس الحرم وحتى إقامة شعائر دينية، ووصل الأمر إلى مطالبة مجموعات ما يسمى "أمناء الهيكل" ببناء كنيس يهودي ملاصق للمسجد الأقصى.. حتى لو أدى الأمر إلى هدم المسجد.
التعاطي مع هذا الأمر يبدو مبكّراً قليلاً بالنسبة لحكومة نتنياهو، ولكنه ليس مستبعداً بل مخطط له.
الهبّة الجماهيرية في القدس على الرغم من إجراءات القمع الإسرائيلية متواصلة، لأن الحرم القدسي في وجدان كل فلسطيني له شأن عظيم لا يمكن القبول بتعدي خطوطه الحمراء، ولا يمكن القبول بمنطق التقسيم الصهيوني مهما كلّف الأمر.
نتنياهو وحكومته يلعبون بالنار. بنار الحرب الدينية، معتقدين ربما أنها فرصتهم الثمينة للنيل من المسجد الأقصى في ظل الوضع العربي المنهار.. ولكنهم لا يعلمون أنهم في لحظة ما غير متوقعة سيشعلون المنطقة بسياساتهم الحمقاء... السكون القاتم في العالم العربي والإسلامي مجرد نار تحت الرماد... ولكن إذا ما كانت الحرب بالمفهوم الديني، فعندها سيكون هناك ملايين المدافعين عن الحرم القدسي والأماكن المقدسة.