Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

في ذكراه الـ43.. الشهيد الكاتب غسان كنفاني لايزال بيننا

في ذكراه الـ43.. الشهيد الكاتب غسان كنفاني لايزال بيننا

كأننا نحتاج دوما إلى دمنا في استحضار صورتنا القديمة الجديدة، فالجرح الفلسطيني لم يندمل بعد ولازال للقصة بقية. وفي الذكرى الـ43 لاستشهاد الكاتب غسان كنفاني نتملى اللوحة الفلسطينية من كافة زواياها التي كان لبصمات الشهيد الأثر العميق في رسم خطوطها إبداعا وكتابةً وقضية..

 

وفي هذه الآراء والشهادات عن غسان محاولة لاستحضار مبدع لم تستطع السنوات محو حضوره بيننا... فغسان لازال حيا

 

تعريف

غسان كنفاني روائي وقاص وصحفي فلسطيني تم اغتياله على يد جهاز مخابرات الاحتلال "الإسرائيلي"، الـ"موساد" في 8 تموز/ يوليو من العام 1972، عندما كان عمره 36 عاما عبر تفجير سيارته في منطقة الحازمية قرب بيروت. الميلاد: ٩ نيسان/ أبريل، ١٩٣٦، عكا، فلسطين.

الزوجة: آني هوفر، دنماركية الجنسية (متزوج ١٩٦١–١٩٧٢)

الأبناء: ليلى وفايز كنفاني

من رواياته:

رجال في الشمس

عائد إلى حيفا

ماتبقى لكم

 

ومن قصصه القصيرة:

أرض البرتقال الحزين

عن الرجال والبنادق

إضافة إلى مسرحيات ورسومات ومقالات كثيرة أبدعها الراحل كنفاني.

.................................

 

آراء وشهادات

 

غزال يبشّر بزلزال... الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش

من الطبيعي أن يكون دمُه قد جفّ. ومن الطبيعي أن يكون أصدقاؤه قد عادوا إلى لغتهم. ومن الطبيعي أن نستعيدَ قدرة الكلام عنه كما نتحدّث عن الأنهار التي اخترقتْنا وذهبتْ.

وهذا ما يحدث لي: أيام وأيام أحاولُ فيها أن أعتادَ هذا "الطبيعيّ" لأكتبَ عنه في هدوء. ولكنه يطردني عن الورق، فإنّ حبره لم يجفّ. هو الذي يمنعني من أن أفي بوعدي، هو الذي يمنعني عن الكتابة.

الكتابة! كم نتساءل: ما هي؟ ونتعثر. ذباب كثير يحطّ فوق الكلام الجميل. وكأنه الفلسطيني الوحيد الذي أعطى الجوابَ القاطع الساطع، وكانت الشهادة شهادة. وكأنه أحد النادرين الذين أعطوا الحبر زخمَ الدم. وفي وسعنا أن نقول: إن غسان كنفاني قد نقل الحبر إلى مرتبة الشرف، وأعطاه قيمة الدم.

فيه حسمٌ لتعدّد أشكال سوء الفهم والتفاهم. وفي كتابته سطوة اليقين. من يتقن قراءته يطرح الأسئلة على مستويات مختلفة.

هنالك من يعتبر الحياة اتهاماً وخيانة، فيُثني الكتابة عن فعاليّتها لأنّ الحريّة لا تأتي بغير الموت!.. ومن هنا، يتحوّل الموت لدى هؤلاء إلى هدف في حدّ ذاته. "أنتَ متّهم إلى أن تثبت موتك". داءٌ شاع في حياتنا الفلسطينية. فاتّخذ الفاشلون فينا جثث الشهداء متاريس وخنادق وقاعات محاكم. أطلقوا النار على الذات مرّة، وانتظروا رصاصَ الأعداء، مرّة أخرى، ليكون معيارَ الجدارة. هذا الطراز ذاته من النظر إلى الحركة وإلى الأشياء يحوّل جثة غسان كنفاني إلى قاعدة لاغتيال الكتابة. وهي، بذلك تجرّد كاتبنا الكبير من أية قيمة خلاّقة عدا الموت.

وهنالك، هنالك من يُعطي الكتابة قدُسيّة الانفصال، وشَرعيّة الطلاق عن المغامرة، والاحتيال على الحياة والخطر. هنالك من يعتبر الكتابة غاية في حدّ ذاتها.

ولكنّ غسان كنفاني هو كاتب الحياة. كان يكتب لأنه يحيا. وكان يحيا لأنه يكتب ويُحيي ذاكرة الماضي الفلسطيني لتكون مكانة المستقبل. لم يكن الموتُ هدفه لأنه لم يكن عاجزاً عن الحياة في الكتابة، ولأنه لم يكن بعيداً عن حركة الفعل الفلسطيني الثوري التي تبلور حياتها في الصراع. وكان توحّده في الفعل الكتابي، والذي يبلغ حدّ التصوّف، نوعاً من استرداد حياته في حياة شعبه وصياغتها في مسرى الحلم العظيم.

لقد سقط غسان كنفاني في ميدان الصراع. سقط وهو يسيطر على موقعه الكتابي .. وقد اغتاله الأعداء لأنه حمل فاعلية الكتابة التي تصنع جيلاً سيعثر على أداة التعبير عن فاعليته في السلاح. ولذلك، فإنّ الدفاع عن غسان كنفاني، أمام أخطاء من لا يرى فيه غير موته، هو دفاع عن الكتابة وعن الحياة.

ويعرف الكاتب الثوري أنّ أداة التعبير عن فاعليّته الاجتماعية تأخذ شكل الكتابة لأنها تميّزه وسلاحه. وليس بوسع الكتابة أن تحقق أثرها النضاليّ إلا إذا كانت كتابة ناجحة. فالفن الرديء الذي يروّج له الصغار في حياتنا الآن، تحت أي شعار كان، لا يقلّ ضرراً عن السلاح الرديء. وقد كان غسان كنفاني فعّالاً ومؤثراً بإتقانه مهنة الكتابة، بخصوصيّته الفنية الجميلة، وبطريقة توظيفه هذا الجمال. وليس بانقلاب المعادلة.

لن نلتقي به بعد ... لن نسمع مزيداً من تعليقاته الساخرة على الذين يأتون إلى الكتابة بفضيلة القضية. ولكنه يقتحمنا دائماً بقوة كلماته التي لا تموت. كم كتب الفلسطينيون وماتوا. ولكنّ حبرَهم كان يجفّ مع دمهم. كتابته هو قد تكون هي النادرة النادرة التي تصلح للقراءة بعد العودة من جنازة كاتبها. وتاريخ تبلور النثر الفلسطيني الجديد يبدأ من غسان كنفاني.

لماذا هو .. لا سواه؟ تلك هي الهدية. ذلك هو النجم. هو الموهوب الذي عرف كيف يربّي موهبته وفي أي نهر يضعها.

لقد تمكّن غسان كنفاني من أداء دوره، لأنه له دوراً، ولأنه مؤهّل، فنيّاً، للقيام بهذا الدور. كان نتاج رحلة العذاب الفلسطيني من السقوط المتمثل في وعاء المخيّم حتى الصعود المتمثل في واقعيّة البندقيّة. وفي عمله الكتابي الذي مارس من خلاله دوره الاجتماعي والوطني تاريخ الحركة الفلسطينية في قلب فنان. لقد كان ثوريّاً من حيث هو كاتب ثوري. لم تُنتزع هذه الصفة من لحظة الاستشهاد.

كان يعرف لماذا يكتب ولمن يكتب. ولكنه كان يعرف أيضاً أن قيمة هاتين المسألتين مشروطة، لإنتاج الفنّ، بإتقان تطبيق المسألة الأخرى: كيف يكتب.

لم تسلمْ كتابة غسان من الاتهام حين ارتقى بشكله الكتابي من حالة السكون الوصفي إلى حالة أرقى وأصعب بتأثير تعقد القضية التي تحتويه. ولم تسلم من مواجهة هذا السؤال الأبدي: من يفهم هذا الأسلوب؟ لم يكن غسان كنفاني سهلاً كما يبدو لقرّائه السطحيّين. صحيح أنه كرّس كلّ طاقته الخلاّقة ونشاطه الاجتماعي في خدمة قضيته الكبرى. وصحيح أنّ هذه القضيّة، بجماهيرها وأشكال صراعها، كانت هدفه العظيم. ولكن الكتابة، كقضية، كانت أيضاً هاجسه. وأنّ التعامل مع سؤال مثل "قضية الكتابة" جعله قادراً على التطوّر الدائم وحيّاً إلى هذا الحدّ.

لم يستطعْ غسان كنفاني أن يكون مؤثراً وفعّالاً إلا لأنه كان كاتباً محترفاً ... حتى في كتابته الصحفية أو اليومية كان شديد الخصوصية والتميّز والإتقان. رشيقاً ومتوتراً كغزال يبشّر بزلزال.

كان ممتلئاً بحيوية نادرة في هذا الجيل. كان مسكوناً بكهرباء لا تنضب. ولم يترك لنشاطه الواعي مجالاً واحداً للراحة. لم يقض إجازة لاستعادة قواه بين رواية وأخرى، أو عمل وآخر. لم يذهب للامتلاء بالتأمّل من أجل تنفيذ عمل كتابي جديد. كان يجدّد وقوده الإبداعي بتبذير قواه. كان يتزوّد بالطاقة تلقائياً، فالذاكرة الجماعية لا تستنزف. وكان يستعيد ملء طاقاته بعمليات تفريغها الدائم.

هل كان حقاً يشعر بموته المبكّر، فأطلق ينابيعه إلى هذه الدرجة من الإسراف؟ هل كان هاجس الموت يستدرجه لصبّ طاقاته في وقت قصير؟ هل كان استشرافه لهذه النهاية – البداية دافعاً لتناول كل أشكال التعبير من قصّة ورواية ومسرحية ودراسة وبحث ونقد، ليسجّل دمه على أصابعنا وذاكرتنا؟ وهل كان يسبق الموت إلى الحياة في الكتابة؟

ربما. ربما كان هذا السباق أحد أجمل تجليّات "الأنانية" الخلاّقة والتفاني في آن واحد. إنها شكل نادر من أشكال تحقيق حياته في سياق تبذيرها في حياة الآخرين. وهكذا تتحول أنانية الفنان إلى نهر كريم.

إنّ الذين عرفوه، عن كثب، كانوا يعرفون مدى حيويته وقدرته الثمينة على العمل. وكانوا يعرفون أيضاً حرصَه المرهق على تحقيق ذاته الفنية. كان يقوم بكل الأعمال العامة طيلة النهار. وفي آخر الليل ... في أول الفجر كان يذهب إلى كتابته "الخاصة"، إلى كتابته الفنية، فلم يكن متاحاً له أن يتخصّص بشكل علني، كان يحترف الكتابة سرّاً. لماذا؟ لأنه فلسطيني ... ببساطة لأنه فلسطيني.

لم يقل أحد إن الفلسطينيين لا يرحمون أدباءهم. سأقول: إن الفلسطينيين لا يرحمون أدباءهم. ذلك من فرْط إيمانهم بفاعليّة الأدب الذي قدّم لهم، ومنهم، تعويضاً عن مهانات، عندما فقدوا كل شيء ولم يملكوا إلا كلمات. وذلك لأنه استمدّ منهم القوة ليؤسّس لهم العلاقة. نادراً ما يسطو الوطن، كما يسطو على أدب الفلسطينيين. ولذلك، يدرك الفلسطينيون، وبحقّ، أنهم هم الذين خلقوا أدباءهم... ولذلك أيضاً يطالبونهم دائماً بالمواطنية المثالية وبالطاعة الفولاذية، ولا يسمحون لهم في أن يكونوا أقلّ من جنود أو قدّيسين. ومن هذه العلاقة الصارمة، من هذه المُطالبة التي تشمل كل شيء يجد الأديب الفلسطيني نفسه "يسرق" حرفة الأدب سرّاً. وفي النهار عليه أن يمارس أشكالاً أخرى للتعبير عن التزامه بسلطة الوطن!

هكذا كان غسان كنفاني يغتصب كتابته الفنية من الساعات المخصصة لنومه. ولم تكن الكتابة إلا نتاج علاقته بفلسطين – الوطن والحلم والصراع والجماهير والمنفى. كان أكثر من كاتب... لكن ما أفدح الخطأ الذي يرتكبه صغار النقاد والصحفيين ويخدعون به الناس حين يضعون واو العطف (للتمييز) بين الكاتب والمناضل كأن يقولوا: كان كاتباً ومناضلاً. ليس الأمر في مثل هذا التفصيل فقد كان غسان كنفاني كاتباً مناضلاً.

كثيراً ما يُجابَه الفلسطيني بأسئلة تأتيه من البراءة أو الاتهام: هل أنت كاتب أم مناضل؟. في مرحلة تاريخية معينة يحدد الكاتب المناضل بأنه الكاتب الذي يعبّر عن حركة القوى الثورية... عن حركة التجديد. وغالباً ما تكون أداة تعبير الكاتب عن اندماجه بقوى الثورة وهي الكتابة. وقد بقي غسان كنفاني مطارَداً بهذا السؤال إلى أن بلغ الشهادة، فهزم السؤال وانتصرت كتابة غسان.

كان نشاطه الكتابي متعدداً. والطريق التي سُفك فيها دمه محرومة من الوصف. لقد رسم جسده الممزّق حالات القضية الفلسطينية... لقد حقق الأسطورة.

كم من صديق رثيت. ولكن لم أحس بأنني أرثي نفسي، فأعيد صياغة حياتي، إلا عندما حاولت الإمساك بطرف هذا البركان: غسان كنفاني. ماذا بوسعك أن تفعل؟ حقاً، ماذا بوسعك أن تفعل؟ هكذا ينقضّ الكاتب على نفسه في حضرة الكارثة التي لا يردّها قلم. ولعلّ مثل هذه الحالات التي تنتقص من جدوى الكلمة وقوّتها في سياق المقارنة مع عناصر الطبيعة أو الفعل الهائل هو الذي خَلقَ، منذ القدم، تقليدَ عقد المقارنة الظالمة بين الكلمة والفعل. ليس الخطأ، دائماً، أن نقدّم إجابة مخطئة. أحياناً وفي مثل هذه الحالة بالذات يأتي الخطأ من مجرّد طرح هذا السؤال.

وإن الموت حادث. ولكن هنالك نوع من الموت يأخذ شكل الإجابة على معضلة أو مقارنة. وهكذا يتحوّل مصرع الكتّاب المناضلين إلى دلالات ورموز. وهكذا كان مصرع غسان كنفاني شهادة فاعلية الكتابة لا نفياً لها كما يتصوّر الميكانيكيون والعاجزون أمام حركة العلاقات، كهؤلاء الصبية القادمين إلى اسم الثورة من أقاليم العجز والإحباط والقبح، ليعمّموا عاهاتهم على الورق وعلى نفسية البشر، فيتّهمون الفنّ بالرِّدّة، ويتهمون الحياة بالخيانة.

صديقي غسان! كم من صديق ودّعتُ، ولكن لم أودّع مرحلة من حياتي إلا في وداعك الأخير. كان آخر ما أنتظر من كوابيس هو أن أقدم لإعلانك السابق عن وجودي منذ عشر سنين. لقد ولدتُ قبل ذلك، ولكنك أنت الذي أعلن ميلادي. لم أقل لك: شكراً، فقد كنتُ أحسب العمر أطول.

الآن نقول: أدب الأرض المحتلة ونسكت!! ولكن الحالة كانت تختلف عامئذ. فقد كنا مجموعة من شباب دون الثلاثين نفتقر إلى أدنى مقدّمات الردّ العمليّ على الهزائم التي يعاصرها وعيُنا وعارُنا. وكنا نحاول كتابة الشعر دون أن نعي أنه شعر. كنا نصرخ، نتوجّع، نحتجّ، فلم نملك أداة تعبير أخرى. كانت أغلبية مواطنينا تسخر منا، لأنها تعرف طفولتنا ومراهقتنا وصبانا معرفة لا يليق بها الإعجاب. صبيان يكتبون شعراً. وكان لقب "شاعر" طُموحاً قاسياً يعذّب. وفي أحسن الأحوال كان بعض المعلمين يقول: مبتدئون لهم مستقبل. حتى العدو نفسه لم يكن يكترث بنا بشكل جاد. وفي الأمسيات الشعرية التي كنا نقيمها في القرى كان الفضول والاعتبار السياسي وبنات المدرسة هي التي تشجّعنا. فقد كان الشعر "المعتبَر"... الشعر المقبول، أنئذ لدى الناس والصحف هو الشعر القادم من الخارج... هو الشعر المصنوع خارج الأرض المحتلة. وكانت النجوم الشعرية الرائجة في العالم العربي هي ذاتها الرائجة لدى صحف العدوّ باستثناءات قليلة. ولم نسأل يومها: كيف يملك الشعر كل هذه القدرة على الاحتيال فيكون مطرب الأضداد؟

وبقينا مجهولين...

إلى أن قام غسان كنفاني بعمليته الفدائية الشهيرة: الإعلان عن وجود شعر في الأرض المحتلة، فانقلبت العلاقة داخل الأرض المحتلة وخارجها. ومشى التطرّف إلى نقيضه المتطرّف: لا شعر إلا في الأرض المحتلة!!

الفضيحة معروفة. ولا أضيف هنا جديداً. وسأعترف بأنّ شهادتي لا تتمتع بأية قيمة عدا قيمة الاعتراف: نحن الذين كنا نكتب ما سمّاه غسان "شعر المقاومة" لم نكن نعرف أننا نكتب "شعر مقاومة" وقد دهشت، قبل سواي، بهذا الشغف السياسي بما نكتبه. كل شيء قابل للتفسير كأن نقول: مرحلة تاريخية معينة انفتحت فيها النفسية العربية الجريح على تقديس كل ما يَرد من أرض فلسطين. ولكن... ولكن بعضنا داخ من اللذة، وبعضنا صار يصمّم القصائد لحناجر المذيعين، وبعضنا خاف المسؤولية وقلِق. وبعضنا أدرك أنها موجة وتنكسر ولا يبقى من هذا الزبد غير الشعر الحقيقي. ويومها... يومها كتبت: "أنقذونا من هذا الحب"...

ولكننا نعرف جيداً أنّ محاولات إلغاء الشعر العربي الثوري كله بواسطة خطب حماسية أو بكائيات يكتبها شباب في الأرض المحتلة، ليست من صنع غسان كنفاني.

إنّ ما فعله غسان هو كسر الحصار المضروب حول أوضاع العرب في الأرض المحتلّة، وإضاءة كل موضع صمود يمارسه أبناء الشعب الفلسطيني هناك. وكان الشعر، ولا يزال، أحد وسائل التعبير عن هذه المواقع وعن هذا الصمود.

كان اكتشاف العرب بأنّ العرب في فلسطين المحتلة يتكلمون اللغة العربية ويحبّون بلادهم ويكرهون الظلم اكتشافاً مذهلاً... مذهلاً حتى الخزي. ومع ذلك أتاح هذا الاكتشاف للصوت العربي القادم من هناك سعادة الإحساس بالانتشار والتغلّب على الأسوار. وكان وعي أصحاب هذا الصوت بوجود من يستمع إليهم حافزاً لنموّه وتطويره لدى البعض، وعقبة أمام تطويره لدى البعض الآخر الذي اكتفى بالجغرافيا موهبة غير قابلة للمناقشة.

لقد دلّ غسان كنفاني الرأي العام العربي على أدب الأرض المحتلة. وأمّا المبالغات واختلال الموازين فتلك مسألة تخصّ الذين درسوا ما قدّمه غسان. لم تكن لفظة "مقاومة" رائجة في الشعر هناك قبل أن يطلقها غسان عليه. وهكذا أيضاً دلّ المسمى على اسمه...

وإذا كان غسان كنفاني قد شمل، بهذه الصفة، كل من كتب باللغة العربية في الأرض المحتلة، فلأنّ أفراحه بما يجد كانت تشمل الكتّاب وأشباه الكتّاب، والمقاومين واللامقاومين، لأنّ أفراحه كانت تشمل اللغة العربية في فلسطين المحتلة. ولذلك، يمكن لفت الأنظار الآن إلى أنّ بعض الأسماء الواردة في مقالات غسان كنفاني عن الأدب في الأرض المحتلة لا تحتلّ أكتر من فاصل هامشي في حياة العرب هناك، وبعضها يحتلّ هامشاً سلبياً يتناقض مع تقدير الوهلة الأولى.

وفي الوقت الذي كان يكشف فيه غسان كنفاني غطاء السرّ عمّا يكتبه كتّاب الأرض المحتلة العرب، كان يدرس نقيض هذه الكتابة وإحدى مواد محاورتها: الكتابة الصهيونية، ودورها في تشكيل الوعي والكيان الصهيونيين. وبكلمات أخرى: كان يدرس فاعليّة الكتابة لدى العدوّ. فقدّم بذلك أول دراسة عربية عن واحد من أخطر الموضوعات الصهيونية. وكان بذلك جديداً وكاشفاً ورائداً كعادته.

وإذا كانت الصورة التي قدّمها غسان عن الأدب الصهيوني تفتقر إلى تصوير بعض الجوانب المهمة، فذلك يعود إلى اعتماد غسان على النصوص الإنجليزية المختارة من الأدب العبري. وإذا كانت هذه النصوص المنتقاة وحدها كفيلة بالتدليل على الدور التدميري للثقافة الصهيونية، فكم ستكون الصورة حالكة نين نطّلع على الأصل العبري الصريح الذي لا يراعي متطلبات الحرص على الرأي العام خارج الوطن المحتل!..

إن دراسة غسان تتمتع بقدرة كبيرة على التقاط الجوهري وإدراك الخصائص الأساسية للأدب الصهيوني، وتشكّل حافزاً لدى دارسي اللغة العبرية لمواصلة خط الكشف الذي أسّسه غسان كنفاني.

وقد يكون من المفيد أن نعرف أنّ الأدب الصهيوني هو أحد وسائل غسيل الدماغ الذي يتعرّض له طلبتنا العرب في الأرض المحتلّة. ولذلك فإنه يحمل إمكانية تشكيل المكونات الثقافية للشاب العربي الواقع تحت الاحتلال، بغض النظر عن اتجاه ردّ فعله عليه. فهو قد يؤثر في شدّه إلى مقدّمات التعايُش على نمط الحياة الإسرائيلية ومن ثم إلى التخاذل أو التساهل تجاه ادّعاء الحق الصهيوني على أرض فلسطين. ومن ناحية ثانية يؤثر في شدّه إلى موقع الرفض لكل جوانب الحياة والفكر الصهيونيين.

ويا صديقي غسان!

إن البياض أمامي كثير. ودمك الذي لا يجفّ ما زال يلوّن. لقد ودّعت مرحلة من حياتي حين كنتُ أودّعك. وجئت ورأيت. ورأيتك كيف تذهب. لقد اتّسعت مساحة الأرض المحتلة ولم يعد ذلك ميزة. ودورة السجون تدور... تودّع وتستقبل. وكل أرض ترى استشهاد أبناء شعبي. ونحن مطاردون في كل مكان. والكاتب ملعون ومتهم بالحياة والكتابة. والوطن هو الوطن ولم تكتب فيه حرفاً واحداً. وأين هي الأرض غير المحتلة في الكون؟ وأين هي الأرض المحتلة في الثورة؟

ويا صديقي غسان!

لم نتناول طعام الغداء الأخير. ولم تعتذر عن تأخّرك. تناولت سماعة التلفون لألعنك كالمعتاد: "الساعة الثانية ولم تصل! كفّ عن هذه العادة السيئة".

ولكنهم قالوا لي: قد انفجر!

والآن، أكتب إليك دون أن أخشى يد كمال ناصر التي خطفت رثائي لك. وقال مازحاً: لا تنشرْ هذا الكلام عن غسان كنفاني. هذا الكلام يليق بي ... وسأُقتل قريباً.

كان يمزح؟ نعم. ولكنه انفجر أيضاً.

لا أحد يحيا لنفسه كما يشاء.

ولكننا نراك في كل مكان... تحيا فينا ولنا. وأنت لا تدري، ولا تعلم.

محمود درويش عن كتاب في وصف حالتنا

....

 

لست مهزوما ما دمت تقاوم.. الكاتب الفلسطيني وديع أبو هاني

يصادف 8 تموز الذكرى الثالثة والأربعين لاستشهاد المبدع والأديب غسان كنفاني. "ما زالوا يسرقون رغيفك ثم يعطونك منه كسرة. ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم .يالوقاحتهم" .لست مهزوما ما دمت تقاوم.الانسان قضية .اذا فشل المدافعون عن القضية فالأولى تغييرالمدافعين لا تغيير القضية.

كلمات واقوال لغسان مازالت تصدح وتطرق جدران الخزان. يطرح فيها غسان كنفاني سؤال القيادة وهموم الجماهير والحرية والمقاومة وطبيعة النظام الرسمي العربي.المسؤول عن كسر اضراب 36.ونكبة 48.وهزيمة 67.اليوم يستبدل معسكر الاصدقاء بالاعداء .وتصبح اسرائيل جارة يطبعون معها وينقلبون على العروبة.ويستبدلون فلسطين باسرائيل.ويستبدلون المقاطعة بالتطبيع .اضاعوا البوصلة لفلسطين. ومازال ابو الخيزران يقودنا عربيا وفلسطينيا. عزاؤنا ان اجيال فلسطين يحفظون اسمك ورواياتك وقصصك .ويرسمونك على جدران المخيم جنبا الى جنب مع حنظلة الضمير الحاضر رغم غيابه.لروحك المجد ومنا الوفاء لك ولمدرستك .ستبقى الحقيقة كل الحقيقة للجماهير ..غاب جسد غسان لكن الفكرة لم تسقط.

.....................................

 

صباح الاغتيال كما ترويه زوجة الشهيد كنفاني.. الكاتب خالد جمعة

صباح الاغتيال، جلسنا جميعنا أطول من العادة، نشرب قهوتنا التركية على الشرفة. وكان لدى غسان كما هو دأبه الكثير من الأمور للتحدث عنها، وكنّا كما هو دأبنا دوماً حاضرين للاستماع. وكان يخبرنا ذلك الصباح عن رفاقه في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثم بدأ يتحدث هو وأخته فايزة عن طفولتهما في فلسطين.

قبل أن يغادر متوجها إلى مكتبه، أصلح القطار الكهربائي لابننا فايز ولابنة أخت غسان وأخيها. كان الثلاثة يلعبون داخل المنزل ذلك الصباح. وكان على لميس، إبنة أخت غسان، أن ترافق خالها إلى وسط البلد للمرة الأولى منذ وصولها من الكويت بصحبة أمها وإخوتها لأسبوع خلا، فقد كانت تعد العدة لزيارة أقربائها في بيروت. لكنها لم تفلح في الوصول الى هناك أبداً. فما هي إلا دقيقتان على تقبيل غسان ولميس إيانا قبل"إلى اللقاء" حتى دوى انفجار مريع.

تطايرت نوافذ البيت جميعها. انحدرت بسرعة، لأجد أشلاء سيارتنا الصغيرة تحترق. وجدنا "لميس" على بعد بضعة أمتار، ولم نجد غسان. ناديته باسمه، ثم اكتشفت ساقه اليسرى. وقفت مشلولة، فيما راح فايز يضرب برأسه الحائط، ورددت ابنتنا ليلى النداء تلو النداء: "بابا، بابا"، وبالرغم من ذلك فقد ساورني أمل ضئيل بأنه قد أصيب إصابة خطرة ليس إلا. لكنهم عثروا عليه في الوادي، قريباً من منزلنا، ونقلوه بعيداً عنّا، وفقدت الأمل بأن أراه مرة أخرى.

قعد أسامة قرب جسد أخته الميتة، وقال لها: "لا تجزعي، يا لميس، ستكونين بخير، وستعلّمينني الإنكليزية من جديد".

وفي المساء قالت لي صغيرتنا ليلى: ماما، سألت البابا أن يأخذني معه في السيارة لنشتري شوكولاته، لكنه كان مشغولاً، فأعطاني لوحاً كان يحتفظ به في جيبه. ثم قبلني وطلب مني الرجوع إلى المنزل. جلست على درج بيتنا لآكل الشوكولاته، وحصل دوي كبير. لكن، يا ماما، لم تكن تلك غلطة البابا، إن "الإسرائيليين" هم الذين وضعوا القنبلة في سيارته.

أنا أرملة غسان كنفاني واحد من شهداء الثورة الفلسطينية العظام، وطني الأصلي هو الدنمارك. أستطيع أن أذكر بغموض الاحتلال الألماني الذي بدأ في 9 نيسان 1940. فقد انخرط أبي في حركة المقاومة، أسوة بغيره من الرجال والنساء الدنماركيين. وقدّم كثير من المقاتلين الأحرار حياتهم آنذاك، وآل بعضهم إلى سجون "الغستابو" [المخابرات الألمانية زمن هتلر] ومعسكرات التصفية أثناء نضالهم ضد الاحتلال الألماني. وكان الألمان يلقبون المقاتلين الدنماركيين الأحرار بـ"الإرهابيين"، وهو الافتراء عينه الذي ترمي به القوى المحتلة قاطبة الشعوب المقهورة التي تقاوم الاحتلال وتشرع في النضال من أجل حريتها واستقلالها. بل إن حركة المقاومة الدنماركية كانت قد ساعدت على إنقاذ اليهود أنفسهم من النازيين الألمان.

في عام 1960 شاركت في مؤتمر عالمي للأساتذة، وشاركت لاحقاً في مؤتمر للطلاب في يوغوسلافيا. وكانت تلك المرة الأولى التي واجهت فيها المشكلة الفلسطينية من خلال لقاءاتي ببعض الطلاب الفلسطينيين، وعند عودتي إلى الوطن التحقت بـ"جامعة الشعب العالمية في الدنمارك" حيث واصلت نقاش تلك المشكلة مع زملائي الطلاب، وسافر بعضنا إلى لندن وشارك في مسيرة الدرماستون التي نظمها أنصار نزع الأسلحة النووية بقيادة برتراند راسل. وحين توفي برتراند راسل عن سبعة وتسعين عاماً كان ما يزال يقاتل من أجل العدالة وهذه المرة من أجل الفلسطينيين.

في صيف الدرماستون ذاك، عدت إلى يوغوسلافيا بصحبة فرقة فولكلورية دنماركية شهيرة، هي "تينكلوتي"، وهي فرقة قد كنت عضواً فيها لسنين عشر.

في أيلول 1961 ذهبت إلى سوريا ولبنان لكي أدرس المشكلة الفلسطينية عن كثب. وفي بيروت، عرفوني إلى غسان كنفاني، وكان آنذاك واحداً من محرري المجلة الأسبوعية العربية "الحرية" وكانت المجلة ناطقة باسم "حركة القوميين العرب"، وكان غسان محرراً للشؤون الفلسطينية فيها. حين سألت "غسان" أن يأذن لي بزيارة بعض مخيمات اللاجئين، تملكه الصمت. وبعد هنيهة صرخ غاضباً "أوتحسبين أن شعبنا الفلسطيني حيوانات في جنينة حيوانات؟" ثم شرع بالتفسير، فتحدث عن شعبه وعن وطنه، تحدث كيف أن الأمم المتحدة نقضت ميثاقها في 29 تشرين الثاني عام 1947 حين قسمت فلسطين خلافاً لإرادة سكانها العرب (الذين كانوا يشكلون آنذاك ثلثي حجم السكان، وكانوا يملكون أكثر من تسعين بالمئة من الأراضي، وتابع غسان يحدثني عن فلسطينه الحبيبة، وعن اضطراره الى مغادرتها عام 1948 بصحبة أهله وأشقائه وشقيقاته الخمسة.

ولد في عكا في 9 نيسان 1936، في بداية الثورة الفلسطينية العربية ضد القوات الصهيونية وسلطة الانتداب البريطاني. وأثناء الثورة، قام الفلسطينيون العرب بإضراب عام لعله يكون الأطول في التاريخ استمر ستة شهور. وحين أخمدت الثورة عام 1939، كان 5032 عربياً قد قتلوا و14760 قد جرحوا، وشنق مئة وعشرة أشخاص على يد السلطات البريطانية.

أخبرني غسان عن الإرهاب الإسرائيلي وكيف أجبر شعبه على هجرة أرضه. وكانت مدينته عكا قد خصصت للسكان العرب، حسب خطة التقسيم التي أرستها الأمم المتحدة. غير أن عكا، أسوة بالكثير من المدن والقرى الفلسطينية، خضعت لاحتلال القوات الصهيونية، وهجر سكانها بالقوة الجسدية والنفسية. وأصيب عرب فلسطين آنذاك بالذعر الشديد بعد مجزرة دير ياسين، القرية المسالمة العزلاء. وقد وقعت المجرزة في 9 نيسان 1948 وصادف ذلك عيد ميلاد غسان الثاني عشر. ومذاك، لم يحتفل غسان بعيده قط. وفي مثل هذا اليوم من كل سنة، أقف أنا أرملة غسان بخشوع أمام أرواح غسان والضحايا الأبرياء الذين سقطوا في مجزرة دير ياسين. وفي ذلك اليوم بالذات من عام 1940، تم احتلال وطني (الدنمارك) على يد النازيين الألمان.

غادرت عائلة غسان عكا قبيل 15 أيار 1948، وكان حوالى ثمانمئة ألف عربي قد فروا من الإرهاب الصهيوني آنذاك. واستمر العرب في الهجرة، يتقدمهم الأطفال والنساء، فقد بقي الرجال ليدافعوا عن القرى والمدن. وما لبثت يافا وحيفا واللد وغيرها أن "نظفت" والتعبير هو لإيغال ألون، من سكانها العرب.

عندما طردت عائلة غسان من فلسطين، كانت صفر اليدين، وقد اختار الأب أن يبقى في قرية لبنانية صغيرة هي الغازية قريبة من الحدود، فالحال انه أراد ان يكون بين أوائل العائدين إلى منازلهم بعد انتهاء القتال، على نحو ما نص قرار الأمم المتحدة بصدد اللاجئين الفلسطينيين (وهو القرار رقم 194، الفقرة الثالثة، الصادر في 11 كانون الأول 1948). ونحن نعلم جميعنا أن مثل هذا القرار لم ينفذ، فقد منعت السلطات الإسرائيلية الفلسطينيين العرب من العودة، لقد أراد الصهاينة الوطن، لا شعبه، وكانت مثل هذا الرغبة كامنة منذ بداية إنشائهم الكيان الصهيوني.

وانتقل أبو غسان مع جميع أفراد عائلته إلى قرية جبلية في سوريا تدعى الزبداني. وكانت الحياة هناك قاسية، وكان الجوع والبرد وجبتهم اليومية. وانتقلوا لاحقا إلى دمشق، وشرع غسان وأخوه الأكبر بتجميع الكتب أملا بكسب القليل من المال الذي يعينهما على عول عائلتهما المؤلفة من ثمانية أشخاص بالإضافة إلى ثمانية أشخاص آخرين يعيشون معهم. وما لبثا أن تابعا دراستهما في مدرسة مسائية بعد أن كانا قد عملا طوال النهار.

كان غسان آنذاك في الثالثة عشرة من عمره، وكانت أخته فايزة (أم لميس) قد حصلت على الشهادة الثانوية، وذهبت عام 1952 إلى الكويت حيث صارت واحدة من أوليات المعلمات، وواحدة من الفلسطينيين الكثر الذين أسهموا في نمو الدول العربية بصفتهم أساتذة ومهندسين وأطباء وغير ذلك. وبعد أن نال غسان شهادة البريفيه في السادسة عشرة من عمره، شرع بالتدريس في مدارس الأونروا، وكان، مع أستاذ آخر، مسؤولين عن تعليم ألف ومئتي طفل فلسطيني لاجئ، غير أن هدف غسان الأعظم كان توعية أولئك الأطفال توعية سياسية. ومنذ ذلك الوقت  صار سبعون في المئة من تلاميذ غسان في مدارس الأونروا مقاتلين.

قبل أن يلتحق غسان بمدرسة الأونروا، عمل في مطبعة في دمشق. وفي سنة 1955 طلبت منه "حركة القوميين العرب" أن يعمل في تحرير جريدتها الرأي وفي طباعتها. وانتسب إلى "الحركة" في ذلك العام، وفي العام التالي، لحق بأخته فايزة وأخيه غازي في الكويت. وأرسل ثلاثتهم أكثر رواتبهم إلى عائلتهم في دمشق. وهكذا توافر للوالد دخل شهري يعول به بقية أفراد العائلة، وحصل في تلك الفترة كذلك على إذن بالعمل في سلك المحاماة في دمشق، وكان أكثر زبائنه من الفلسطينيين المدقعين. وواصل غسان، خلال السنوات الست اللاحقة التي قضاها في الكويت، نشاطه السياسي. وكان يدرّس الفن والرياضة، ولقد أثبتت تلك السنون أنها جزء هام جداً في حياته. فقد قضى معظم أوقات فراغه في الرسم والكتابة والقراءة، وانصبت أكثر قراءاته على السياسة: فقرأ ماركس، وانجلز، ولينين، وغيرهم. وفي عام 1960، أقنع الدكتور جورج حبش "غسان" بمغادرة الكويت والمجيء إلى بيروت للعمل في الحرية.

منذ الأيام الأولى للقائي بغسان، أحسست بأنني إزاء إنسان غير عادي. وتطورت علاقتنا من خلال القضية الفلسطينية إلى علاقة شخصية، ورغم وضعه الذي لا يبعث على الأمان فغسان الفلسطيني لم يكن يملك جواز سفر، ولا مالاً، وكان يعاني فوق ذلك من مرض لا شفاء منه هو السكري ، فإننا ما لبثنا أن اكتشفنا أن الموت وحده سوف يكون قادراً على تفريق الواحد منّا عن الآخر.

وشرعت بالتدريس في روضة للأطفال. وما هو إلا شهر على وصولي إلى لبنان حتى تزوجنا ولم يندم أي منّا على ذلك وكان لنا كمعظم الفلسطينيين الآخرين، مصاعبنا، الاقتصادية وغير الاقتصادية. وفي كانون الأول عام 1962 أضحى الوضع السياسي شديد الاهتزاز، فكان على غسان أن يبقى مختبئا في المنزل لفترة تزيد عن الشهر، وذلك لافتقاره إلى الأوراق الرسمية. وأثناء هذه الفترة، كتب رواية رجال في الشمس التي طار صيتها في معظم أرجاء العالم العربي، وأهداها إليّ.

ولقد ترجم غسان لي كل رواياته وقصصه أثناء كتابته إياها، وصرت على معرفة كذلك بكتاباته السياسية. وكان دافعه إلى الكتابة لا يحد كأن في غسان نبعاً من الكلمات والأفكار يعب منه الصفحة تلو الصفحة عن فلسطين، وطنه، وعن شعبه. وكان دائم الانشغال، كما لو أن الموت يتربص به عند زاوية الشارع. وكان غسان رساماً ومصمماً للرسوم، وكانت إحدى لوحاته اثناء تلك الفترة تمثل رجلاً مصلوباً بالزمن...

لقد كنت شديدة التأثر بأفكار غسان، غير انه لم يفرضها أبداً عليّ. وهذا ما ينطبق على أصدقائنا الأجانب الذين اكتشفوا القضية الفلسطينية من خلاله. واهتم الكثير منهم، لاحقاً، بهذه القضية في بلدانهم ذاتها، أما علاقتي بعائلة غسان فقد كانت حميمة، فلقد رحبت بي عائلته منذ البداية بكل ما امتلكت من ضيافة ودفء، وصرت أحب أفرادها حباً عظيماً.

استندت حياتنا الزوجية إلى الثقة، والاحترام، والحب، ولهذا، فقد كانت على الدوام مهمة، جميلة، قوية. وولد أول صبي لنا في 24 آب 1962 وأسميناه "فايز" ومعناه المنتصر تيمنا باسم جده.

وصار غسان أكثر انشغالاً من ذي قبل، وانغمس في عمله انغماساً كلياً. وكان آنذاك قد ترسخ في حقلي الكتابة والصحافة. وفي عام 1963 عُرض عليه منصب رئيس تحرير المحرر، وهي جريدة يومية مثلت وجهات نظر القوى الناصرية والتقدمية. وما لبثت هذه الجريدة أن أصبحت ثاني أكبر جريدة يومية في لبنان، واتسع انتشارها في بلدان عربية أخرى. وعمل غسان فيها سنوات خمساً، وعمل في مجلة فلسطين الأسبوعية التي مثلت وجهة نظر الجناح الفلسطيني في "حركة القوميين العرب" وعالجت المسائل الفلسطينية.

خلال عامي 1963- 1964، كانت "حركة القوميين العرب" في طريق تحولها إلى الاشتراكية العلمية، وقررت عام 1964 أن تعد العدة لبدء الكفاح المسلح في فلسطين. وما هي إلا فترة وجيزة حتى تأسست الفرقة المقاتلة الأولى، ولم يكن هدفها أول الأمر القيام بعمليات عسكرية، وإنما الاتصال بالعرب المقيمين وإنشاء قاعدة للكفاح المسلح القادم، وما لبثت "حركة القوميين العرب" أن قدمت شهداءها الأُول في النضال من أجل تحرير فلسطين. ولقد أهدى غسان لاحقاً روايته ما تبقى لكم التي حازت عام 1966جائزة أصدقاء الكتاب في لبنان لواحد من أولئك الشهداء، هو خالد الحاج، وكتب غسان في الإهداء: "إلى خالد.. العائد الأول الذي ما يزال يسير".

عام 1965 دُعي غسان رسميا لزيارة الصين والهند. وهناك التقى بوزير الخارجية الصيني "شينغ لي" وبرئيس الوزراء الهندي شاستري، وبغيرهما من الزعماء السياسيين في كلا البلدين، وناقش المسألة الفلسطينية معهم. ولا شك في أن زيارته تلك قد أثرت فيه تأثيراً عظيماً.

وبعد زيارة غسان الثانية إلى الصين، حيث شارك في مؤتمر كتّاب آسيا وأفريقيا، كسب فايز ابن الأعوام الأربعة أختاً جميلة، أسميناها "ليلى"، تيمنا ببطلة إحدى أشهر الروايات الشعبية العربية، و"ليلى"، إضافة إلى ذلك، اسم إسكندينافي معروف في أوساط اللابيّين في المنطقة القطبية الشمالية.

أحب غسان طفليه حتى العبادة، وغالبا ما كتب عنهما، وعلى قصر الزمن الذي قضاه معنا، فقد كان يلعب معهما مراراً ويعلمهما أشياء كثيرة. ولقلما فقد أعصابه، ولم يضربهما قط. واتسع سروره برفقتهما ليشمل أصدقاءهما، وغالباً ما قادهم جميعا في سيارته إلى السينما أو شاركهم ألعابهم في منزلنا.

قبل حرب حزيران 1967 بأسبوع واحد، توفيت أم غسان فجأة في دمشق بعد إصابتها بذبحة قلبية. لكنه لم يذرف دمعة واحدة طوال مأتمها، على صدق حبه العميق لها، بل إنه حاول أن يبث العزيمة في أبيه وفي أفراد العائلة الآخرين. غير أننا أثناء رجوعنا إلى بيروت، انهار غسان، ولأول مرة في حياتي، شاهدت دموعاً في عينيه.

وعندما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر استقالته عقب حرب حزيران، وبعد أن فقد الكثيرون الأمل، رفض غسان أن يخضع للاستسلام. لقد كان في اللحظات الدقيقة قوياً بشكل لا يصدق، وكان يحاول أن يعطي شيئا من هذه القوة للآخرين. وكان يعبّر لاحقاً عن مشاعره بالكتابات السياسية والأدبية.

لم يساورني أدنى شك في أي لحظة من اللحظات في أن غسان قد اختار الطريق السليم. ولو أنني حاولت أن امنعه من مواصلة نضاله والتزامه السياسيين، لبقي لي زوجي، غير أنه ما كان سيكون ذلك الإنسان المرهف الشريف الذي أحببته وأُعجبت به.

........

 

"إنه كان شعبا في رجل، وكان قضية، وكان وطنا ولا يمكن "أن نستعيده إلا إذا استعدنا الوطن".

الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي

........

 

رسالة من الدكتور جورج حبش إلى آني كنفاني زوجة الأديب غسان كنفاني في يوم استشهاده:

آني الأعز،

لكم يسخطني ألا تكون اللغة الإنكليزية لغتي الأصلية، فأعجز عن التعبير عن كل ما أشعر به وعن كل ما أودّ قوله في هذه اللحظة الهامة والصعبة.

لقد كان غسان بالنسبة لي شخصيا وبالنسبة لجبهتنا جمعاء، عزيزا جدا، غاليا جدا، أساسيا جدا. عليّ أن أقر بأننا قد تلقينا ضربة موجعة.

الآن، يا آني، نواجه جميعنا وأنت بصورة خاصة السؤال التالي: ما ترانا نفعل لرجل، لرفيق، بهذا الإخلاص وهذه القيمة؟ ثمة جواب واحد فحسب: أن نعاني بشجاعة كل الألم الذي لا يمكن لأحد منا أن يتجنبه، ومن ثم، أن نعمل أكثر، ونعمل بطريقة أفضل، وأن نقاتل أكثر، ونقاتل بطريقة أفضل.

أنت تعلمين جيدا جدا، أيتها الأخت الأعز، أن غسان كان يقاتل في سبيل قضية عادلة؛ وتعلمين أن شعبنا الفلسطيني قد خاض حرباً عادلة على امتداد خمسين عاما. ولقد وقف مؤخرا الثوريون الحقيقيون في العالم أجمع الى جانب حربنا العادلة. وهذا يعني أن دم غسان المنضاف إلى نهر الدماء العظيم الذي دفعه شعبنا طوال خمسين عاما هو الثمن الذي ينبغي علينا أن ندفعه لنفوز بالحرية والعدالة والسلام.

ولا حاجة أن أخبرك أن تجربة الشعوب المقهورة في العالم أجمع تنبئ بأن ذلك هو الطريق الأوحد لهزيمة الصهيونية والإمبريالية والقوى الرجعية.

آني، إني أعرف جيدا جدا ما تعنيه خسارة غسان بالنسبة لك. لكن أرجوك أن تتذكري أن لديك فايز و ليلى والآلاف من الاخوة والأخوات أعضاء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وفوق كل هذا، لديك القضية التي حارب غسان من أجلها.

 

آني، نحن بحاجة الى شجاعتك. إن شجاعتك في هذه اللحظة الحاسمة تعني الكثير بالنسبة لي، وبالنسبة لجميع الرفاق والمقاتلين في الجبهة الشعبية.

إن أكثر ما يؤلمني في هذه اللحظة ألا يكون بمقدور هيلدا زوجتي ولا بمقدوري أن نكون الى جانبك. وأنت تعرفين أسباب ذلك معرفة جيدة كما أفترض. إنه ليحز في نفسي ألا أكون قد رأيت غسان، ولا كلمته قبل دفنه.

أكرر: نحن بحاجة الى شجاعتك، وبحاجة الى أن تشعري بأنك لست وحدك ولن تكوني وحدك في أي زمن.

وبانتظار المناسبة الأولى لرؤيتك، نبقى هيلدا وأنا أخلص أخت وأخ لك.

جورج حبش

تموز 1972

............

 

لن تصبر الأرض إلاّ خلال شرايينك !.. الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم

"عن الفلسطيني التائه الذي ما زال اسمه غسان كنفاني"

تطاردني في الليل أوجه أخوتي

وتسقط في وجهي، من الريح، جثتي

فأصرخ مرعوباً ويهلع قاتلي

وتحترق أشجار المقابر صرختي

هنا الموت، يا تفاحة الموت أمطري

ثمارك في أرض جحيم وجنة

يطاردني القتلى. فأية عيشة

أعيد إلى القتلى. بأية ميتة

وبين نساء الدوالي وبين كنوز الرمال وبين الهجير وريح الشمال

عاطيت حبك وحدك أنت

وأذكر حتى أدق التفاصيل، رائحة المطبخ،

الساحة، النبعة، الكتب المدرسية

واذكر (لا أتصور ) صرخة رعبك والطعنة البربرية

ويا مشجباً لجلود القرابين والخوذ الأجنبية

سلاماً على وجهك الطيب الحلو،

لا تحرميني يديك وترياق ثدييك، لا تحرميني لأني أذكر

أذكر يوم صحوت على الآن

وبددني الموت، بددني في جميع الأمم

جريحاً، يدثرني في زاويا المحطات ثوبي المميز، ثوبي الكفن

أبكي وأقرع باب الشعوب وباب الزمن

لأنك أمي حملت العذاب قرنفلة

صادروا معطفي فغرزت قرنفلتي في مسامي،

وبعد فصول بلا مطر، أبرقت، أرعدت أمطرت

(لم يكن فجأة)

صرت قرنفلة للعذاب!ويوم قتلت اكتشفت حدودي ومستقبلي وصراطي

ويوم قتلت عرفت إلى أي حد أحبك

لا بأس يا امرأة الدم والياسمين

سينبجس النبع رغم ركام الأكاذيب،

رغم هواة التواقيع،

رغم ازدحام الحكومات حول ضريحي لتوقيع أسمائها في وداعة،

(كما يقضي الإتيكيت)

إذن، جثتي دفتر لهواة التواقيع ؟!

هذا ضميرك يا عالم الموت، تعترف الآن أو تنكر الآن،

موتي سحابة صيف تقشع عما قريب

وتفشي الطحالب أسرار نبعي الذي ردمته

الأساطير التكنولوجيا…

ولا بأس يا امرأة الدم والياسمين

يميناً (وأنت اليمين)،

لأنك أمي التي هي من نسل صلبي

سأكرر باسمك، في كل بيت وفي كل مقهى، وفي كل ساحة

لأنك وجهي وتفاحتي وكتابي وشعبي

سأحفر جسمك في الشمس،

لن تصبر الأرض إلاّ خلال شرايينك النازفة

ووجهي عبادة الشمس. يا شمس عيني

 ويا شمس روحي وعقلي وقلبي

و أمي التي هي من نسل صلبي

ووجهي. وتفاحاتي. وكتابي. وشعبي!

بشر قاتلي بالموت قتلاً

وأنقض جسمه ليلاً فليلاً

أنا الحكم الذي لا بد منه

أجوب رحاب وادي الموت عدلاً

إذا نهب اللصوص حليّ أمي

فقد نهبوا البريق المضمحلاً

سأجدل جثتي حبل المنايا

لأملأ سلتي عنباً ودفلى.

سميح القاسم

................

 إعداد: أشرف سهلي