استشهد زياد في ترمسعيا، يوم الأربعاء الماضي، وهو يزرع الزيتون.
1) ترمسعيا
كانت أول مرة سمعتُ فيها باسم تُرمسعيا في أغنيّة جورج قرمز، وهو يغني "أنا اسمي شعبي فلسطين.. أنا من ترمسعيا وكمان من طبرية أنا ابن القدس الغربية...".
تقع القرية في الطريق بين نابلس ورام الله. ويمكنك وصولها بطريقين؛ الأولى مرورا بقرية بيرزيت، حيث تصادفك لوحة إعلان عن نادي الفروسية في ترمسعيا. أما إذا سلكت الطريق الثانية، فستمر من جانب مستوطنة "بيت إيل" التي هي قيادة الاحتلال في الأراضي المحتلة العام 1967، وفيها قواعد البيانات والعقل الجهنمي للسيطرة وللتَدمير اليومي لحياتنا، ثم مخيم الجلزون؛ مخيم المعاناة، الذي يرشّحه كثيرون ليكون صاعق الانفجار الأكبر.
ما إن تلمح القرية حتى يلفتك شيء مختلف. ففيها شوارع واسعة، بجوانب أنيقة، ونخل باسق، وبيوت حديثة كبيرة، طرازها مختلط بين العربي والغربي. ويأتيك الجواب سريعاً: أغلب أهالي القرية مغتربون في الولايات المتحدة، لكنهم يستثمرون في قريتهم ويتعاونون ويعملون، وتتطور القرية على نحو نموذجي.
يعيش أهل القرية الفروسية في نادي الخيل، ويتحدثون عن قصص الحب بأريحية؛ فالحاجّة فطوم كان ابن خالتها يحبها، وكان قبل أكثر من 60 عاما تقريباً يأتيها ويناديها "سنيورة"، فتنزل من البيت لتركب الفرس وهو يمشي. وكما تقول لتلفزيون فلسطين "كنا نسرح سوا ثم سَلَكنا". ولا تتمالك وهي تحكي القصة، إلا أن تُغَني، فتُغَني معها النساء. ويتناقلون أنَّهُ كانَت هناك امرأة تُسمى جميلة العرومي، مشهورة بجمالها وثوبها الرومي. ولكنها كما أخريات تركها الرجال وسافروا للعمل (هذه المرة إلى كوبا)، فكانوا يغنون عَنها "لبست الخلَق، والخلَق رومي، جَرحت القلب بنت العرومي" (الخلَق بمعنى الثوب). ويمازحونها غِناءً: "جوزك جميلة ريته يغرق"، قاصدين أن يغرق في طريقه البحري للمهجر ليتزوجوها. وهي تعدهم أن يأتي العام المقبل ليغيظهم ولكنه لم يعد. وترتدي البنات اليوم الثوب الرومي ويتذكرنها.
2) زياد أبو عين: كانت أول مرة سمعت بزياد أبو عين، في ذات زمن سماعي جورج قرمز؛ زمن صفقة تبادل أسرى العام 1983. إذ حدثت قصة اختزنتها الذاكرة. لقد جرى إخراج زياد المحكوم بالمؤبد من الطائرة في مطار اللد، والتي كانت معدة لنقل أسرى محررين للجزائر. ويومها قال اسحق شامير، رئيس وزراء الاحتلال: "لا أخلاق بين إسرائيل والإرهابيين". كان أسيراً اعتقل بمطاردة معقدة في الولايات المتحدة العام 1979، وسُلّم للإسرائيليين العام 1982، رغم قرارات ومناشدات دولية، ورغم إضرابه عن الطعام. لكن زياد أطلق في صفقة العام 1985.
اعتقل زياد مرارا بعدها، وصار عضواً في المجلس الثوري لحركة "فتح"، ووكيلا لوزارة شؤون الأسرى. التقيته بمناسبات جماعية، وسمعت أحاديث عنه من أصدقائه؛ كانوا يبتسمون عند ذكر رغبته في أن يصبح وزيراً. لم يكن الأمر خفيّاً، وكانوا يقولون يصعب عليه رؤية نفسه في الموقع رقم (2). لكن رغم مناكفاتهم له، كانوا يمتدحون طيبة قلبه، ولا يشككون في نشاطه. وعندما عُيّن وزيراً لهيئة الجدار ومكافحة الاستيطان، بقي في الصف الأول للمواجهة دائماً.
3) أعداء الزيتون: المستوطنون في المناطق بين رام الله ونابلس مسكونون بمحاولة إيجاد رابط مع روايتهم التوراتية؛ ليس بالبحث العلمي والمنطق والتاريخ، بل يبحثون في كل ركن عن خرابة قديمة، قد تكون بنيت زمن العثمانيين، أو الانتداب، ليدّعوا أنّها أثر يهودي. ومن ذلك بيت خرب، في ترمسعيا، لا يمكن أن يكون أثرياً، حاولوا تحويله إلى مزار، ما اضطر الأهالي لهدمه في يوم شهد صداماتٍ عنيفة. ويتسلل المستوطنون سراً وجهاراً لخلع أشتال الزيتون والأشجار، فيعاود المواطنون الزراعة.
4) أهل الزيتون: يشمل صمود أهل القرية البناء والزراعة، وبناء بيوت ذكية تتزود بالكهرباء من خلايا شمسية. كما تشكل قصص الماضي جزءاً من مؤونة الحياة؛ "السنيورة" فطّوم، وجميلة ذات الثوب الرومي، وتجميل القرية، والخيول.
أما بعد،
5) شهيد الزيتون: من أُغنية جورج قرمز، إلى صفقة الأسرى، والأسير المُحرر زياد، إلى الوزير زياد الآتي ببدلته وربطة عنقه للمظاهرة، إلى الوزير الشهيد الذي كان يزرع الزيتون، ثوبٌ كنعاني يتكامل.
* مدير برنامج ماجستير الدراسات الدولية في معهد ابراهيم أبو لغد للدراسات الدولية في جامعة بيرزيت