هو ذلك اليوم، العشرون من مايو/آيار من عام ألف وتسعمائة وخمسة وثمانين، يومٌ محفور في الذاكرة الفلسطينية، والعصيّ عن النسيان، يوم أن كُسرت فيه القيود وتحققت فيه أحلام الأسرى، وانتصرت الإرادة والعزيمة الفلسطينية على عنجهية السجّان وصلفه.
يوم أن سُجّلت فيه صفقة التبادل الأروع من بين صفقات التبادل، والأكثر زخماً، تلك التي اكتسبت بُعداً فلسطينياً وقومياً وعالمياً، فشملت (1155) أسيراً من بينهم أسرى أجانب وعرب وفلسطينيي 48 والقدس، بالإضافة إلى أسرى من الضفة الغربية وقطاع غزة، ولم يُستَثنَ أحدٌ، وجميعهم من ذوي الأحكام العالية والمؤبدات، وخُيِّر هؤلاء المحررون في تحديد الجهة التي يرغبون التوجّه لها بعد تحررهم.
وقد شكلت هذه الصفقة صفعة قوية للاحتلال بكل حيثياتها ومكوناتها، وحدثاً نوعياً في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، وسابقة ثورية في كافة نتائجها.
وإذا كان التاريخ الفلسطيني يحفظ ذاك التاريخ بفخر وعزة، وهذا ما يجب أنه يؤرخه المؤرخون، فإن الذاكرة الشخصية تحفظه بسعادة منقطعة النظير، كيف لا ووالدي هو واحد من أولئك المحررين في تلك الصفقة التي مكنتني من احتضان والدي وللمرة الأولى في حياتي دون قيود ومراقبة الجنود.
في مثل هذا اليوم وقبل ثلاثين عاماً تحرّر والدي من سجون الاحتلال الإسرائيلي رغم أنف السجان، وقبل انتهاء مدة محكوميته في إطار صفقة التبادل الشهيرة، والتقيت به بعد فراق دام أكثر من خمسة عشر عاماً، قضاها متنقلاً من سجن إلى آخر ومن زنزانة انفرادية إلى أخرى جماعية، وتعانقنا في ذاك اليوم للمرة الأولى دون حواجز أو قضبان، واحتضنته بعيداً عن المراقبة والإرهاب، في لقاء مفتوح دون تحديداً للوقت أو الزمن، في مشهد لم أذكر مثيلاً له طوال حياتي، بل وحتى في طفولتي على الإطلاق، لكنني وللأسف ما زلت أذكر جيداً لحظة اعتقال والدي ومشهد اقتحام الجيش لبيتنا والعبث بمحتوياته وركلهم لنا بأقدامهم على الرغم أن عمري لم يكن آنذاك قد تجاوز الثلاث سنوات، مشهد لا يزال عالقاً في ذهني ولم تستطع الأيام والعقود محوه أو إزالته.
ففي الثالث من مارس/ آذار عام 1970، اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي والدي "أبو العبد" -أدام الله له الصحة والعافية وأطال عمره-، وزجت به في سجونها سيئة الصيت والسمعة، وذلك بتهمة الانتماء لـ "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" التي حكمت القطاع ليلاً، وأذاقت مجموعاتها الجيفارية قوات الاحتلال مرارة الهزيمة وعلقمها بعملياتها النوعية في قطاع غزة خلال سنوات النار.
"أبو العبد فروانة" اسم يعرفه كل من تعرّض للاعتقال وأمضى سنوات في السجن، فمن لم يعش معه، سمع عن نوادره وطرائفه في السجون التي كانت تخفف من معاناة الأسرى وآلامهم، وحكاياته التي يحب أصدقاؤه سماعها، وهو وحدوي كانت تربطه علاقة حميمة مع كافة الأسرى بمختلف انتماءاتهم الحزبية وتوجهاتهم الفكرية، وفي إحدى المرات ارتدى شارة الصليب الأحمر ليفض اشتباكاً مؤسفاً- وفضّه بالفعل - ما بين رفاق الجبهة الشعبية والإخوة في حركة "فتح"..!
الحكاية بدأت فصولها قبل خمسة وأربعين عاماً ولم تنته بعد.. تخللها عشرات القصص والروايات، ومئات الأحداث والمشاهد.. ففي الثالث من مارس/آذار عام 1970 وهو اليوم الذي اعتقل فيه والدي، لم أكن قد تجاوزت الثالثة من عمري، ولم أكن قد تعلمت بعد أبجديات ومفردات الاحتلال والسجن.
والذاكرة لم تسعفنِ يوماً في استحضار ولو دقائق قليلة تسبق اعتقاله وهو يداعبني خلالها، أو حتى لحظات معدودة وأنا في حضنه وهو يقود دراجته النارية التي نفذ من خلالها عملياته.
بل وأستجدي الذاكرة لإستحضار مجرد مشهد أو صورة واحدة لا غير وهو يقبلني في طفولتي، ولكن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث..!
لكن -وربما لدى أطباء علم النفس تفسيراً له- أذكر وبالتفصيل مشهد اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي المدججين بالسلاح لبيتنا الصغير الواقع في حي بني عامر بمحلة الدرج بغزة، في ليلة ذاك اليوم والعبث بمحتوياته، وركلهم لنا ونحن نياما بأقدامهم وأعقاب بنادقهم، على الرغم من أن قوات الاحتلال كانت قد اعتقلت والدي من مكان عمله في حي التفاح شرق مدينة غزة في وقت سابق من نهار ذاك اليوم.
هذا المشهد لا يزال ماثلاً في ذهني، وهو ذاته وما أضيف له من مشاهد لاحقاً جراء السجن والاعتقال، هو ما يدفعنا للالتصاق طواعية أكثر فأكثر بقضايا الأسرى.
فطفولتنا بدأت بمشهد اقتحام وتنكيل، واعتدنا على طريق السجون قبل أن نعرف لرياض الأطفال طريقاً، وحفظنا أسماء السجون قبل أن نحفظ أسماء مدارسنا، وجلسنا على شبك الزيارة قبل أن نجلس على مقاعد الدراسة، فأي مستقبل لطفولة كهذه يمكن أن تكون خارج نطاق الأسرى وقضاياهم العادلة؟
فكبرت وكبرت بداخلي قضية الأسرى، قبل أن أكبر وأتحول أنا الآخر بدوري إلى أسير، لم يحدث لي ذلك فقط، ولم يحدث لأبي فحسب، بل حدث مثل ذلك لأخي الأصغر جمال -الذي أبصر النور بعد اعتقال والدي ببضعة شهور- حين اعتُقل وهو طالب في سنّ الطفولة لسنوات خمس، قبل أن يعتقل ثانية ويمضى سنتين إضافيتين.
وبعدما كنا نتنقل برفقة الوالدة، لزيارة الوالد في هذا السجن أو ذاك، أصبحت الوالدة تتنقل بصحبة زوجها لزيارتنا في هذا المعتقل وذاك السجن، فالأمور تغيّرت وانقلب الحال، فالوالد الأسير أصبح زائراً، والصغار كبروا وأصبحوا أسرى، والسجون بقيت على حالها، والوالدة -أطال الله في عمرها- باتت تحفظ أسماء السجون ومواقعها.
وصدقاً كلما كتبت شيئاً عن الأسرى ومعاناتهم وأبنائهم، كلما تذكرت تجربتي الشخصية، وحكاية عائلتي مع السجون، والتي تتشابك مع تجارب وحكايات مئات الآلاف من الفلسطينيين، والتي قد تكون أقلّ مرارة عشرات المرات من حكاية الآخرين، فتجدني أشعر بالألم، وكلما شعرت بالألم ازددت إصراراً على المضي قدماً بالعمل والعطاء من أجل الأسرى وقضاياهم العادلة، فحياتنا يجب أن تُكرس لأجل حريتهم وسعادة أطفالهم، والسعادة لا تتوفر إلا في الحرية، والحرية تُنتزع ولا تُستجدى.
العشرون من مايو/ آيار عام 1985 سيبقى مفخرة في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني عامة، والحركة الوطنية خاصة، وأسماء من تحرر في ذاك اليوم ستبقى محفورة في ذاكرتنا، وسيبقى من واجب الجهات المعنية إنصافهم بما يكفل لهم الحد الأدنى من متطلبات الحياة الأساسية وضمان حياة كريمة لهم ولأسرهم تليق بتضحياتهم وبالسنوات الطويلة التي أمضوها خلف قضبان السجون في ظروف هي الأسوأ والأقسى.
* باحث مختص بقضايا الأسرى ومدير دائرة الإحصاء بوزارة الأسرى والمحررين