كل ما أذكره أن الله توفاني في شهر أيار من عام 1922، هذا الشهر الذي سيصبح لاحقاً شهر نكبتنا، توفيت عن عمر يناهز الرابعة والستين، ما زلت أتذكر، في السنة السابقة لوفاتي، هبّة يافا عام 1921 التي استمرّت لثلاثة أيام فقط،
تلك الهبّة الصغيرة بزمنها، الكبيرة بشراستها. لقد سماها البعض ثورةً، واختصرها البعض الآخر بالهبّة. حينها كوّن اليهود مجموعات تظاهرت متجهة نحو حي المنشية وحي العباسية في مدينة يافا، وهاجمت سكانها الآمنين، استطاع السكان العرب وقتئذ صدّ هجمات اليهود المدعومين من جيش الاستعمار البريطاني.
كنتُ أعمل في سوق يافا بائعاً للخضراوات والحمضيات، وتعرض متجري أثناء هجمات اليهود على المدينة للتكسير وهرس البضائع. رغم ما تلقيناه من خسائر في الأملاك والأرواح إلا أننا مرّغنا أنوف المهاجرين اليهود برمل شاطئ يافا الجميل، وشعرنا بأننا أطحنا بما أتى به هرتزل الصهيوني وبلفور الاستعماري. كل ما أستطيع قوله كشاهد على تلك الحقبة، إننا كنا أقوى من كل إيديولوجياتهم وعصاباتهم العسكرية والدعم العالمي لهم، و"هم" ضمير يعود إلى اليهود المهاجرين إلى أرضنا، "أرض الميعاد" التي يدّعون أن ربهم وعدهم بها!
الآن في قبري، يأتي ابني كل شهر تقريباً إليَّ، ويضع باقة من الورد تذبل بعد أول لفحة شمس لها، يقرأُ الفاتحة ويمسح وجهه براحتيه، ويسرح في ملكوت صمت المقبرة، قرر في إحدى المرات أن يخرج عن صمته، ويحكي لي حكايات وقصص حدثت بعد موتي، وما الذي يدفعه إلى أن يتحدث لميت لن يسمعه؟! ألقلّة الأحياء الذين لا يسمعون الحكايات، أم أن الحديث للموتى أكثر جدوى؟ ربما لأن الموتى كانوا أقلّ موتاً أثناء حياتهم.
قبل بدء ابني برواية أحاديثه لي، كان يتلمس أحجار قبري وكأنه يحنّ إلى شيء. قال في مقتبل حكايته: "كان لنا مدينةٌ اسمها يافا يا أبتي". لم أفهم وقتها ما قصده، تساءلت: ما الذي حلّ بيافا في غيابي وموتي؟ هل غبت عنها كثيراً ومرت عليها حقبة تاريخية جديدة؟ انتظرته حتى يكمل كلامه وأفهم مقصده. وقال بعد لحظات صمتٍ تحمل في طياتها غصّة وألماً: "لقد مضى على رحيلك يا أبي ما يزيد على ربع قرن، حدث فيها ما حدث، وانقلبت كثرتنا لقلة، وتحولت قوتنا إلى استكانة، ووحدتنا إلى فُرقة. أبي! يافا لم تعد مدينةً فلسطينية"، ذَرف ولدي دمعةً يتيمة على حجرات قبري، وتنفّس قليلاً بنشيج عميق، وأكمل حديثه لي: "في أواخر نيسان من عام 1948، احتلّت العصابات اليهودية المدينة، وهجرت الفلسطينيين منها، ولم يبقَ منا إلى القليل القليل، يافا الآن مدينة يهودية، سطا عليها اليهود الذين كانوا مجرد مهاجرين حقيرين وضعفاء".
تعجبت في نفسي الراقدة تحت التراب: كيف ليافا أن تصبح هكذا؟ يافا اليهودية؟! أين شدتنا وبأسنا الذي كنا عليه أيام هبّة عام 1921؟ هل أصبح ابني عجوزاً خَرِفاً ليقول ما يقول؟ تابع ابني كلامه لي: "في غيابك يا أبي، زادت أعداد المهاجرين اليهود بالآلاف، ومكّنتهم دولة الاستعمار من الوجود في أرضنا، وساعدتهم في إنشاء مؤسسات خاصة بهم، ودعمت عصاباتهم بالسلاح، فانقلبت الموازين التي تغيّرت عما كانت عليه، أهدونا نكبةً واحتفلوا باستقلالهم". اتكأ ابني على حجارة قبري لشدة ألمه من فقدان يافا، دخلَ في نوبة صمت وتوقف عن الكلام، كأن الموتى من حوله سمعوا حديثه واهتزّت قبورهم، لكنهم كانوا عاجزين عن قرع جدرانها من الداخل.
نهض ابني متهالكاً عن تربة قبري، مثقلاً بأقصوصته المقتضبة والمفجعة، ألقى عليَّ تحية الوداع ومضى بين القبور منكّسَ الأفكار والخواطر في عقله، ربما كان يفكر في ما سيرويه لي في المرة المقبلة، بمزيد من التفاصيل التي ما زالت مبهمة، وتحتاج إلى راوٍ يجالسني مرات ليكمل هذه الحكاية التي ستمتد إلى الأجيال التي ستحمل صفات جديدة على إثر هذه النكبة، وأبرز هذه الصفات هي: لاجئ!
حتى لو كنتُ حياً، كيف سأواسي ولدي المسجى بالحزن على يافا؟! وأيُ قول مبتذل سأرتجل له لينهض من ألمه؟ أما أنا الميت، فصدمتي وحزني بما حدث سيُخدره موتي، لكنَ ولدي الحي، كيف السبيل إلى خلاصه؟ أريد شيئاً من يافا يطفئ فقدانه لها، حتى لو كان ذلك الشيء حبةً برتقال حزينة. سأدعوه إلى قليل من التأمل والنسيان، وأنصحه:
"هيا بنا نمضي... لنطرح أحزاننا في مقاهي الرصيف، ونحتجّ: ليس لنا في المدينة دار".
نعم لنا في يافا دارٌ، وبيوت من حجر قديم مبني على الطراز العربي، هُجرنا من بيوتنا وأصبح طرازها أوروبياً بسكانٍ يهود مهاجرين، ولنا في يافا سوقٌ قديمة، ورائحة حمضيات بياراتها، ولنا رمل الشاطئ المتطاير في ذاكرة يافا الحزينة. هل يصلح الشعر للتعزية أو النصح؟ كنا نريد أن ننهض من موتنا إلى فردوسنا، ليس ذلك الذي في السماء، بل إلى يافا، وها قد أمست فردوساً مفقوداً، ألا ليته يعود!