Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

حول يهــوديّة إسرائيل... هاني المصري

حول يهــوديّة إسرائيل...  هاني المصري

  بدأت القصة منذ نشوء الحركة الصهيونيّة وعقدها العزم على إقامة وطن قومي لليهود في "أرض الميعاد"، أي في فلسطين، على حساب أهلها الأصليين، أي الشعب الفلسطيني. وأخذت القصة بُعدًا عمليًا مع أول هجرة يهوديّة إلى فلسطين.

ثم أخذت بعدًا خطيرًا عندما صدر "وعد بلفور" في الثاني من شهر تشرين الثاني من العام 1917، الذي أعطى فيه من لا يملك إلى من لا يستحق. واكتملت الدائرة عندما أنكرت الحركة الصهيونيّة وجود الفلسطينيين ورسّخت بين أنصارها مقولة (شعب بلا أرض لأرض بلا شعب). وحتى عندما اعترفت إسرائيل بالشعب الفلسطيني بالرسائل المتبادلة التي تزامنت مع توقيع "اتفاق أوسلو" في العام 1993؛ جاء ذلك بشكل موارب عن طريق الاعتراف بالمنظمة بوصفها ممثلًا للشعب الفلسطيني من دون الاعتراف بحقوقه، بينما اعترفت المنظمة بحق إسرائيل في الوجود والعيش بأمن وسلام.

وتواصلت القصة وأخذت بعدًا تراجيديًا عندما أصدرت الجمعيّة العامة للأمم المتحدة القرار 181، الذي قسم فلسطين بين الدولة اليهوديّة التي خصص لها تقريبًا 55% من الأرض، والدولة العربيّة التي خصص لها تقريبًا 44%، بينما خصص الباقي لمنطقة القدس التي نص قرار التقسيم على أن تكون دوليّة.

وبالرغم من أن إسرائيل اعتبرت نفسها دولة يهوديّة وتمثل الشعب اليهودي في جميع أنحاء العالم، إلا أنها لم تطرح مطلب الاعتراف بها كدولة "يهوديّة" كشرط لأي اتفاق إلا أثناء انعقاد مؤتمر "أنابوليس" في أواخر العام 2007.

هناك من بين الفلسطينيين من اعترف بإسرائيل كدولة "يهوديّة" من خلال توقيع "اتفاقيّة جنيف" بين إسرائيليين وفلسطينيين في العام 2003، بينهم أمين سر منظمة التحرير الحالي، الذي يعلن الآن رفضه ليهوديّة إسرائيل من دون أن يعلن تخلّيه عن هذه الاتفاقيّة التي نصت على "حق كل من الشعبين الفلسطيني واليهودي في دولة"، ولا يغيّر من بشاعة هذا الاعتراف ما جاء بعد ذلك من عبارة تحدثت عن "عدم الإجحاف بالحقوق المتساوية لجميع المواطنين في كل من الدولتين". فكما نعرف أن وعد بلفور نصّ أيضًا "على ضرورة أن نفهم جليًا أن لن يُؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنيّة والدينيّة التي تتمتع بها الطوائف غير اليهوديّة المقيمة في فلسطين"، ورأينا كيف أن هذه الجملة لم تساعد، بل غطت على اقتلاع الفلسطينيين وتشريدهم وارتكاب المجازر بحقهم. فعندما يصبح أصحاب البلاد دخلاء تتم المطالبة بعدم الإجحاف بحقهم، فهذا يعني فتح الباب لاستباحتهم.

هناك من يدعو من الفلسطينيين سرًا إلى بق البحصة من خلال إرسال رسائل إلى الرئيس تطالبه بالاعتراف بإسرائيل كدولة "يهوديّة"، أو التوصل إلى حل وسط، وبعضهم توقع – والحمد لله أنه ليس مقربًا من الرئيس هذه الأيام – أن يتم الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل كدولة يهوديّة وفقًا لما جاء في خارطة الطريق التي تنص على أن الحل يجب أن يتضمن إقامة دولتين: واحدة يهوديّة، وأخرى فلسطينيّة.

ومنهم من أخذ يدعو علنًا إلى عدم الرفض التلقائي للاقتراح بالاعتراف بيهوديّة إسرائيل، والقيام قبل ذلك بفهم تفسير الدولة اليهوديّة وتوضيح تبعاتها (وكأن هذا ليس واضحًا)، وهل هناك أي غطاء قانوني لها؟ وهل يعني اعتراف الفلسطينيين بالدولة اليهوديّة أنه لا يحق العيش فيها سوى لليهود؟، أو عدم رفض المطلب الإسرائيلي بهذا الشأن، وإنما مطالبة اليهود بتفسير ماذا يقصدون منه بالضبط.

مثل هؤلاء الفلسطينيين الذين يحدثون تصدعات في موقف الإجماع الفلسطيني إزاء الاعتراف بيهوديّة إسرائيل يراهنون على أنهم عن هذا الطريق يلقون الكرة في الملعب الإسرائيلي، ويحرجون اليهود.

حجة هؤلاء تنازلات القيادة الفلسطينيّة، خاصة بالنسبة لقضيّة اللاجئين، وأن اليهود مختلفون على تفسير هذا المطلب، وعلى أن إسرائيل دولة ديمقراطيّة ويهوديّة أو يهوديّة وديموقراطيّة، وموقع الفلسطينيين في هذة الدولة، وهل يتم العمل على تهجيرهم طوعًا أو قسرًا بالقوة، أو عن طريق تضمين الاتفاق القادم تبادل السكان والأراضي الذي يفضله ليبرمان ووضعه شرطًا لقبول خطة كيري، أو القبول بوجودهم كعبيد ومواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة، أو اعتبارهم أقليّة يُمنَحون حقوقًا متساويّة في دولة لكل مواطنيها.

إذا أقدمت القيادة الفلسطينيّة على الاعتراف بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي أينما كان، مثلما تطالب الحكومة الإسرائيليّة، مقابل قيام الدولة الفلسطينيّة، التي إذا أقيمت نتيجة لما تسمى "عمليّة السلام" الجارية حاليًا ستقوم على جزء من الضفة ومن دون معظم القدس، ولن تستطيع استيعاب إلا جزء من الشعب الفلسطيني؛ فإنها تتبنى الرواية الصهيونيّة للصراع، التي تستند إلى أن فلسطين هي "إسرائيل"، وحررها اليهود لإقامة دولتهم الموعودة لهم لإقامة هيكل سليمان الثالث، وهذا يعني أن الضحيّة الفلسطينيّة تعطي الشرعيّة للجلاد الذي لن يعوضه ولن يكفيه اعتراف العالم كله الذي لا يعادل اعتراف الشعب الفلسطيني به؛ لذلك تعطي حكومة نتنياهو كل هذا الاهتمام للاعتراف الفلسطيني بإسرائيل كدولة "يهوديّة".

كما لا تقتصر خطورة هذا الاعتراف على تزييف الماضي، وما يعنيه ذلك من إقرار الفلسطيني بأنه كان على خطأ منذ البداية، وإنما في كونه يفتح الطريق واسعًا لإسقاط حق اللاجئين في العودة، وحق الشعب الفلسطيني في الداخل أن يعيش حرًا ومتساويا مع من اغتصب أرضه، كما يفتح الطريق لاستمرار نظام التمييز والفصل العنصري ولطرد من تبقى من فلسطينيين، بعد أن تكون قيادتهم قد اعترفت بأنهم غرباء وغزاة ومحتلين وجاء اليهود لتحرير أرضهم منهم.

ما يجعل الكلام السابق منطقيًّا أن المشروع الاستعماري الصهيوني الاستيطاني لا يزال مفتوحًا ولم يغلق، بل اتجه، خصوصًا في السنوات الأخيرة، نحو المزيد من التطرف وعدم الاستعداد للمساومة لعقد أي تسوية تحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينيّة. ولا يغير مما سبق اقتران الاعتراف بإسرائيل كدولة "يهوديّة" بالقول "مع عدم الإجحاف"، أو إضافة عبارة "لكل مواطنيها"، أو إقرار قانون أساسي يحفظ حقوق المواطنين في إسرائيل، لأنها عبارات تستهدف منح الشرعيّة للجرائم السابقة، وفتح الطريق لجرائم لاحقة. فإسرائيل تجسيد لمشروع استعماري استيطاني عنصري، والاتجاه المركزي فيها يعطي تفسيرًا للمطالبة بالدولة اليهوديّة يواصل ويعمق هذا المشروع، بحيث لا معنى لأي جمل أو أي محاولة للتذاكي من خلال اللعب بملعب الحركة الصهيونيّة وتصور إمكانيّة إحراجها عن هذا الطريق. فالمطلوب أولًا هزيمة وتفكيك المشروع الاستعماري، وبعد ذلك يمكن الاعتراف بالحقوق المتساويّة للشعبين.

أما التعلق بأذيال أن قرار التقسيم نص على قيام دولة "يهوديّة"، فالرد عليه يكون: أن القرار كان يتحدث عن اليهود في فلسطين وليس دولة لليهود أينما كانوا، كما أن الدولة اليهوديّة كانت ستضم 498 ألف يهودي و407 ألف عربي، بينما كانت ستضم الدولة العربيّة 725 ألف عربي و10 آلاف يهودي، بينما القدس وضواحيها ستضم وفق قرار التقسيم 100 ألف يهودي مقابل 105 آلاف عربي. فمن يتحدث عن قرار التقسيم عليه أن يأخذه كله وليس أن ينتقي جزءًا منه.

وما له دلالة في هذا السياق أن نص الاعتراف الأميركي بإسرائيل كان يتضمن كلمة "يهوديّة"، فقام الرئيس الأمريكي حينذاك هاري ترومان بشطبها بخط يده واستبدالها بكلمة إسرائيل، ما يدل على أن مسألة الاعتراف بإسرائيل كدولة يهوديّة كانت مرفوضة حتى من أقرب حلفائها، على عكس ما يمارسه الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما الذي يدعم المطلب الإسرائيلي بالاعتراف بإسرائيل دولة "يهوديّة"، مخالفًا الدستور الأمريكي والقيم الديمقراطيّة التي من المفترض أنها ترفض العنصريّة والتمييز على أساس الدين.

إن تكرار الحديث من قبل الرئيس أبو مازن عن استطاعة إسرائيل أن تسمي نفسها كدولة "يهوديّة" أو كما تشاء، وأن الفلسطينيين يمكن أن يعترفوا بها على هذا الأساس إذا اعترفت بها الجامعة العربيّة أو الأمم المتحدة، والموافقة على حل متفق عليه لقضيّة اللاجئين وتخييرهم الشكلي في خيارات، من ضمنها خيار العودة إلى ديارهم "إذا وافقت إسرائيل"؛ يتناقض مع التأكيدات الفلسطينيّة المستمرة التي يكررها أبو مازن بعدم الاعتراف بيهوديّة إسرائيل، فمثل هذه القضيّة ستبقى مرفوضة من الفلسطينيين حتى لو اعترف العالم كله بها، ومثل هذه المواقف تشجع من يريدون كسر الموقف الفلسطيني الرافض لتبني الرواية الصهيونيّة للصراع.