غرقت خيم النازحين السوريين، و«ألكسا» لم تبدأ بعد. أمس، مع ملامح العاصفة، علت الصرخة في الخيم البلاستيكية. طاف الساكنون في قلبها. ومن لم يطف، قضى ليله ساهراً يمسك أطراف خيمته كي لا تقتلعها الرياح القوية. هؤلاء هم جزء من مجتمع آخر مضيف عاش الأمرين أيضاً،
وإن كان ثمة سقف يحميه. أما الدولة التي يفترض أنها تعي معنى الموت برداً، فلا «تمون على خيمة»، وأفظع ما يمكن أن تقوله: «أنا مرعوبة». وكذلك الحال بالنسبة إلى الجمعيات الدولية الحاضرة بلا طاقة بقدمين عاريتين، تقف الأم تراقب السيل الزاحف إلى خيمتها. تغرورق عيناها بالدموع، وهي تنظر إلى أقدام أطفالها السبعة الواقفين مثلها، بعريهم، على الأحجار التي كانت لتوها تستخدم كمقاعد جلوس في تلك الخيمة التي صارت كل حياتهم. هناك، في سهل البقاع، حيث لجأت عائلات سورية وجدت نفسها فجأة بلا مأوى، ستنتظر الأم وأطفالها طويلاً قبل أن يعبر السيل من «بيتهم». خلال تلك الفترة القاتلة بصقيعها وذلّها، سيبكون. سيرجون والدتهم أن تعطيهم الدفء، أن تأخذهم إلى مكانٍ جاف. هي لا تجيب. تسأل نفسها مراراً: «إلى أين يمكن أن أحملهم في ذلك البرد القارس؟».
أول من أمس، لم يكن البرد قد صار لا يُطاق. ومع ذلك كان السيل سبّاقاً. جرف أرض الخيمة.
أمس، جاء البرد قاسياً، ومع ذلك حاولت الأم أن تفعل ما في وسعها لإعادة «سهمدة» أرض الخيمة بالوحل، وسدّ الثُّغَر بالحجارة والرمل «كي لا تدخل المياه إلينا مجدداً»، ولكن هل ذلك يكفي لمواجهة العاصفة؟
لا تمتلك هذه العائلة سوى «كم حرام أخدنا بعضهم من جمعيات وبعضهم من جيراننا اللبنانيين»! هذه هي كل تدابير العاصفة: خيمة على أرض موحلة وعدد من الحرامات... لا دولة ولا منظمات دولية ولا جمعيات. هؤلاء ليسوا جزءاً من التدابير إلا في وسائل الإعلام.
لا أحد سيعرف الكثير عن حياة هؤلاء، إن «لم يختبر العيش في خيمة كالتي نعيش فيها نحن»، يقول إبراهيم. هذا الرجل الذي «طافت» خيمته مراراً يعيش اليوم خوفين: الخوف من «طوفان» جديد والخوف من «تدهور حالة ابني الذي أصيب بالتهابات الرئة من الصقيع». خوف هذا الرجل نابع من تلك الأخبار التي سمعها عن «موت طفل في عرسال وآخر في البقاع الغربي بسبب الصقيع». ويسأل نفسه: «ماذا لو تدهورت حالته؟»، لا أحد يملك الإجابة، حتى وائل أبو فاعور نفسه، وزير الشؤون الاجتماعية في البلد الذي نزح إليه مليون ونصف مليون نازح «ولم يتخذ قراراً بعد بإقامة مخيمات ضمن المواصفات لحماية هؤلاء».
سنسأل الوزير السؤال الذي طرحه إبراهيم على نفسه: ماذا لو ماتوا؟ ما هي «شغلة» الدولة؟ يختصر الوزير كلامه لـ«الأخبار» بالقول: «أنا مرعوب». مرعوب؟ لأن «الوضع كارثي ونحن عاجزون، فنحن كوزارة لا نمون على خيمة، ونحاول أن نعمل جاهدين من خلال الهيئات الدولية». ويرد أبو فاعور هذا العجز إلى «غياب القرار السياسي في شأن إقامة مخيمات رسمية للنازحين». وفي حضرة هذا الغياب، ثمة ما يقوله: الصقيع سيجرف ناساً، ولا حيلة في يد الدولة إلا القول: «الله يستر». وعلى هذا الأساس، كل ما يمكن أن نفعله هو محاولة «التخفيف من وطأة الكارثة وليس مواجهتها، ولهذا بدأنا العمل مع الجمعيات على موضوع التجهيز للشتاء كتغليف الخيم وتأمين التدفئة والثياب». أما العمل على تأمين أماكن في حال حدوث الكوارث، فهو ما يعتبر الترف بحد ذاته.
هذا من جهة الدولة العاجزة. أما بالنسبة إلى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، فالوضع ليس أفضل حالاً. فهذه الأخرى تشكو العجز. وبرغم أنها تجهد هي الأخرى لمساعدة النازحين، وخصوصاً من يقطنون الخيم، إلا أن الأمور «ليست بهذه السهولة»، تقول دانا سليمان، الناطقة باسم المفوضية. وتتطرق سليمان لحملة «مساعدات التحضير للشتاء»، التي «تتضمن كومبونات المازوت والغاز للتدفئة والطبخ والحرامات والثياب الشتوية». وبموازاة ذلك، بدأ الجيش أيضاً بالعمل في هذا الإطار «عبر توزيع مساعدات عينية من شوادر بلاستيك وخشب ورمل». وتشير سليمان إلى أنه جرى «تجهيز بعض الأماكن الجماعية للسكن في عدة مناطق في حالة الطوارئ». وعندما نسأل: لم لا يُنقَل القاطنون في الخيم إليها قبل حصول كارثة الموت؟ تقول سليمان: «مش أكيدة فينا ننقل، لو كانت فاضية وجاهزة كنا نقلناهم من قبل». هنا، العجز يضرب أيضاً، وإن كان الاستعداد للمساعدة موجوداً. وتردّ سليمان ذلك إلى تحديين رئيسيين: أولهما «مستوى التمويل الذي لا يتعدى 32% من 1,7 مليار دولار مطلوبة»، أما التحدي الثاني فهو «عدم وجود بنية تحتية صلبة لاستيعاب هذا الكم من النازحين».
العجز ضارب. لكن ذلك لا يمكن أن يعفي أحداً من المسؤولية. هؤلاء النازحون إلى بلاد الله لا يطلبون الكثير. يطلبون حمايتهم من الموت لا أكثر ولا أقل.
في البقاع مثلاً يشكو هؤلاء من «قلة المساعدات». وهذا بديهي في كثير من الأماكن وليس في البقاع وحده. فلنعرّج على سهل البقاع. هناك، حيث اختفت الخيم المصنوعة من الخيش والنايلون تحت أكوام الثلج. في داخلها الذي يغوص بعتمه، تشتمّ شيئاً من الدفء ممزوجاً برائحة الكرتون والبلاستيك وأغصان الشجر المبلل. وفي كل الخيم، سترى المشهد ذاته. وجوه متعبة من البرد والصقيع تتحلق حول وجاق من الحطب إن وجد، وإن لم يوجد، تجدهم مدثّرين بـ«الحرامات».
الحال في سهل البقاع هو نفسه في البقاع الغربي، حيث يقطن أغلب النازحين في الخيم. لا فارق بين المكانين باستثناء «دوز» الغضب الذي يزداد حدة هنا «من الغياب التام لجمعيات الإغاثة اللبنانية منها والدولية والعربية، حيث تبين أن جل اهتماماتها فتح المكاتب وتنفيع بعض الموظفين، بعيداً عن معالجة هذا الملف بشكل جدي وفاعل»، يقول أحد النازحين. وفي ظل هذا الغياب المزدوج من الدولة والهيئات الإغاثية، سيقضي أبو محمد الحلبي ليله مع اثنين من أولاده «ننتناوب على السهر خوفاً من اقتلاع الرياح للخيمة وتسرب المياه إليها». أما في مخيم الدلهمية، فثمة ما هو أكثر إيلاماً. مشهد الأطفال الحفاة على الثلج، وهم كثر. وبابتسامة لا تخلو من التهكم، يقول إسماعيل: «شايف هدول ما ضل وفد أوروبي ولا عربي إلا ما شافهن، بس ما صدقوا يمكن إنو رح نغرق بالشتا».
وفي الطرف الشمالي من المخيم، تحاول عائدة الحمصية، تدعيم خيمتها، التي تستأجرها بـ60 ألف ليرة بالشهر، بالأحجار والقساطل الحديدية، بعدما فعلت فيها الزوابع ما فعلته. تقول: «كل الليل عايشين على أعصابنا، ما بكفي اننا عم نوقد صرامي وبلاستيك، منشان ما نموت من البرد، كمان الخيمة حسيناها رح تطير».
خوف عائدة لا يشبه خوف عذاب؛ فتلك «مرعوبة» على ابنها الرضيع من البرد. تدعو «الله أن لا يطيل العاصفة؛ لأن ما في عندي إلا ربطتين خبز وغالون 10 ليتر من المازوت».
عكار أيضاً. ففي ساحة العبدة، أولى البلدات العكارية، تبدو الطريق خالية إلا من شاحنة صغيرة، تقل بضع نساء وأولاد. يخلع الهواء العاصف غطاء الشاحنة، فتنكشف رؤوس الركاب من الخلف ملفوفة بما تيسر من بقايا ثياب، وتظهر الوحول المكدسة على أحذيتهم أنهم عائدون لتوهم من عمل زراعي لم تترك لهم العاصفة مجال استكماله.
بضعة كيلومترات، قبل بلدة القليعات، ثمة مخيم كبير على شاطئ البحر. رجل من سكان القليعات، يجاهد على سطح منزله ليركب قسطل الصوبيا، وهو يطرح السؤال عن أحوال سكان الخيم، حيث لا مجال للصمود، ولا دخان منبعثاً من خيمة.
أما على مفرق الحيصة، ازدادت أعداد خيم، كانت تؤوي عمالاً زراعيين أتوا سابقاً من سوريا، وأصبحت جزيرة مليئة بالخيم، تعوم وسط بحيرة، تفصلها عن الطريق المؤدية إلى العبودية، فبدا الناس حائرين في تدبير مصرف للمياه أو في إعادة تشبيك الخيم قبل أن تقتلعها العواصف، أو يدخلها المطر.
ولا يقتصر هذا الأمر على النازحين، فالمضيفون ليسوا أفضل حالاً. فهؤلاء، القاطنون في بيوت، عانوا أيضاً. وربما الخبز هو أكثر ما شعر تجاهه هؤلاء بالضعف، أكثر من صقيع الشتاء. وكان لافتاً في طرابلس مشهد الإقبال غير المسبوق على «الرغيف»، وهو المشهد الذي ذكرنا بزمن الحروب. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الوقود. ففي بعض قرى الجنوب، لم يعد بعض أصحاب المحطات يبيعون كميات كبيرة من المازوت، «لتوفير مادة التدفئة لأكبر عدد من الناس، وخصوصاً أننا نخاف من إقفال الطرقات وعدم تزويدنا بالمازوت»، يقول أحد أصحاب محطات الوقود. وللتيار الكهربائي حصته أيضاً، ويقول حسن بيضون من بنت جبيل: «يعاني أبناء المنطقة منذ أكثر من أسبوع انقطاع التيار الكهربائي، باستثناء ساعات قليلة يومياً لا تتجاوز في أحسن الأحوال الساعتين دون صدور بيان أو تفسير واضحين عن مؤسسة كهرباء لبنان، التي راجعناها مراراً وتكراراً». وهذه هي المأساة بحد ذاتها. فما العمل عندما تشتد ألكسا؟
شارك في الاعداد: رامح حمية، عبد الكافي الصمد، روبير عبد الله، أسامة القادري