Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

موسم المطر.. والموت... توفيق وصفي

موسم المطر.. والموت... توفيق وصفي

يطفح القلب بالأحزان كلما اسودت السماء، وآن أوان الموت في موسمه الأثير، الذي لا تشفع أمطاره وثلجه لأرواح آن أجلُها، يحصدها في غير أوان الحصاد، ويُرعب غيرها ممن يظن أصحابها أنهم في منأى عن خبط المنايا، بعد أن يُلقي على أرواحهم وهو يحوم حولها تحيةً أشبه بالنذير!

 

تتداخل في الطريق الطويل إلى بيت عزاء على الحدود أطيافُ وملامح من ماتوا بآثار الإطارات الموحلة، يتخيّل لوهلة وجوههم مدهوسة على خطوطها، يكاد أن ينحرف عنها بعفويةِ المأخوذ بالمشهد، لولا رشقة مارقة من المطر على وجهه المفعم بالأسى، توقظه وتذكره بشبابنا الذين يموتون في الفيافي، كالشاب خميس أبو فياض ابن القرارة، الذي رحل عن أرضها الخضراء للعمل في ليبيا قبل سبعة أشهر، وها نحن ذاهبون لتقديم واجب العزاء لذويه.. مات هناك في حادث مروري، وحُرمت أمه العجوز وأبوه وأشقاؤه من إلقاء نظرة أخيرة على جثمانه، بعد دفنه في أرض قفر، مخلفا أسى لا تنفع فيه المواساة.

يأتي المطر إلينا ونذهب إليه، نستبشر به ونَحذره، يُبهجنا ويُربكنا، حتى في تأخره عن ميعاده المحسوب أو تبكيره، يحل كنعمة لمَن شقق الجفافُ أرضه، ونقمة على من لا سقف له ولا مظلة في طريق غير مأهول، كما يأتي الموت نعمة لمن تعيش الخرافُ أفضل منه، ونقمة على من لا ينقصه شيء، إلا الموت.

أخذ الموت أبي في موسم المطر مصحوبا بتنهداتنا ودموعنا، وهمسات السائرين في جنازته تواسينا بأنه "ارتاح"، وفي البال أنينه من شدة الألم وإفصاحه في أيامه الأخيرة عن رغبته في الرحيل، مفضلا الموت على حياة مقعد عاجز تشل حياة كل من حوله.. ألحق به أمي رحمهما الله بعد اثني عشر موسما للمطر، أسلمت الروح على وقع رشقاته على نافذة إحدى غرف مستشفى الشفاء، بعد أن أوصتنا بألا ننسى "لمّ الغسيل"! لم يتأخر عن الحضور في الموسم نفسه ليختطف أحب شقيقاتي، وهي تحلم نصف غافية نصف يقظة به وبالمطر، وكأنه ذو قلب رق لها فلم يقطع حلمها، وأعفاها من قسوة النزع الأخير.

نيلسون مانديلا مات هذا الموسم فأبكانا، مجددا برحيله افتقادنا ياسر عرفات الذي علّمنا أن مانديلا "عَمُّنا"، كونهما شقيقين من عائلة المناضلين من أجل الحرية، كما قال زميل من جنوب أفريقيا في معهد الصحافة في برلين الشرقية في شتاء 1988، وهو يعانقني بعينين دامعتين مؤكدا لحظة وداعنا أن العالم سيكون موحشا في غياب أمثالهما.

لم يمهل الموت أحمد فؤاد نجم حتى قدوم المطر الذي تأخر، لعلهما توافقا على أن "الزايد أخو الناقص"، وأن موسما آخر للمطر لن يزيد نجم شيئا، كصعلوك عنيد ذاق حلاوته ومرارته أكثر من ثمانين حولا، تحت زخاته بين أحضان مصر حرة أو على وقعها الذي يُشجيه في زنزانة معتمة، بصحبة رفيقه النزيل الشيخ إمام عيسى، يطوعان السجن للنشيد الذي ننتظره في الجامعات بشغف التواقين للحرية المطلقة والعيش الكريم، ويهوّنان من سطوة السجن والسجان بالطقطوقة الهازئة بهما ومَن وراءهما من حكام القصر!.