كانوا مشبعين بالانطلاق والمرح والصعود فوق احلامهم البعيدة، وكانوا رائعين فوق الأرض يمشون ببطء على الحصى والتراب، ورائعين وهم يطيرون فاتحي الأذرع في الهواء الذي احتضنهم وابتسم لهم وقال لهم: حلقوا معي أكثر وأكثر...
هم أولاد الأسرى القابعين آبائهم وأمهاتهم في سجون الاحتلال، خرجوا في رحلة إلى قمم وجبال أريحا ضمن برنامج إبداعي ورياضي وترفيهي وثقافي نظمته هيئة شؤون الأسرى ومؤسسة تواصل وبمشاركة كتاب ومتخصصين اجتماعيين وبرفقة أمهاتهم وعائلاتهم...
وهناك فوق الجبال وفي الوديان وأمام التاريخ القديم، وعلى خطى الأنبياء والرحالة والفرسان والرهبان، وقفوا فوق التلال وصرخوا بأعلى أصواتهم، صرخوا ثم صرخوا كأنهم يدقون جدران السجون التي يحتجز فيها آباؤهم وأمهاتهم، ينادون عليهم أن اخرجوا إلينا، لقد تعبنا من الانتظار، وتعبت الأمنيات وهي تتقصف على أعمارنا سنة وراء سنة، وظلوا يصرخون...
أولاد وبنات كبروا دون أب أو أم، صدمهم فراغ البيت وغياب حنان الوالدين، انكمشوا في واقع قاسٍ وحياة لا تسمع فيها سوى سجون واعتقالات وعذابات وآلام، لا لون للصباح اليومي ولا دفء في المساء الروتيني، لا من يقرع الباب ويبشر بعودة الغائبين، لا من يأتي إلى المدرسة ليسأل المعلم عن ابنه في درس اللغة العربية أو درس العلوم...
أولاد يصرخون فوق القمم، سهول أريجا ونخيلها وأشجارها تردد أصواتهم وكلماتهم وأغانيهم، الأموات نهضوا من قبورهم، والأحياء انتبهوا إلى قيدٍ في صدورهم، وكانت وجوههم البريئة تملأ صفحة الفضاء وتعانق الشمس الحامية، وعندما ركضوا ولعبوا وتبللوا بندى الأعشاب، أيقظهم وجع القلب وسؤال الفراشات الملونة...
أبناء القمم يصرخون، وعندما طلب منهم الكاتب زياد خداش أن يكتبوا أي شيء يجول ببالهم، فقد كتبوا رسائل قصيرة إلى آبائهم وأمهاتهم بالسجون، قالوا فيها: أين أنتم، وإلى متى تبقون هناك دوننا، أطلوا علينا واكتشفونا في أحضانكم وحياتكم ولا تتركونا، نحن خائفين، يفزعنا حديد الليل الثقيل، ويفزعنا الحاجز والطرق على الأبواب في ساعات الفجر الأولى، وتفزعنا المسافات البعيدة من رام الله إلى سجن النقب، ومن الخليل إلى سجن هداريم، صوركم على حيطان البيت صامتة ومكبلة، صوركم ملأها الزمن بغبار رملي رمادي وسيل من الدمع الأحمر....
أبناء القمم يصرخون: لا نريد آباءنا بعد أن تذوب أجسادهم خلف القضبان أو في المرض، لا نريد آباءنا مقهورين دون أمل أو رجاء أو فارس يترجل عن هذا الجبل..
نريدهم أحياءاً يسيرون معنا من النطفة إلى العلقة، من طبشورة إلى طبشورة إلى أغنية، يحتفلون مع أعمارنا وهي تشب على أناشيد الحرية وأعالي الشجر.
ابناء القمم يصرخون، استيقظ راهب كنيسة وادي القلط ونزل عن صليبه وصلى امام الوادي السحيق والصخور السمراء، ايقظ القديسين النائمين في الكهوف والمعلقين فوق رؤوس الجبال، واستيقطت ينابيع قرية العوجا، وجرت سريعة تخرخر بالماء المشع وبروح القمح والأمل..
أولاد الأسرى يصرخون فوق القمم، لم ينزلوا إلى ما وعدتهم به الاتفاقيات والمواثيق الصماء وتواري الإرادة في هيئة الأمم، صعدوا بأجسامهم وأسمائهم وما في دمهم من جوع وعطش وحطموا قيد الخوف، أطلقو أياديهم حرة وتنفسوا على صدر السماء..
أولاد القمم يرددون صدى الشاعر الفلسطيني هايل عساقلة:
الطفلة المذبوحة
تصيح في شقيقها الذبيح :
انهض من الأرجوحة
سدّوا علينا الريح
يأتي أبونا في غدٍ
قبل طلوع الفجر من
مخيم القرميد والصفيح...
* وزير شؤون الأسرى والمحررين- رام الله