لا شك في أن كثيرين منا يشعرون أحياناً بالغثيان عند سماع أو قراءة الدعاية الممجوجة لبعض الأشخاص، عادة ما يوصفون بأنهم مفكرون ومحللون إستراتيجيون وما إلى ذلك من الألقاب الاستعراضية السخيفة التي تنقلها بعض وسائل الإعلام التضليل العربية عند الحديث عن القضية الفلسطينية.
فقد تجاوزت أحاديث بعضهم هناك، وليس أخيراً فقط، أي مسحة ذوق عن أن ما يجري هنا وهناك هو من أجل فلسطين وأن التضحيات كلها من أجل فلسطين وما إلى ذلك من اللغو والمنة الرخيصة.
صحيح أن بعض مشاكل أمتنا العربية وبعض الدول العربية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمواقفها من القضية الفلسطينية، على علاتها. لكن ما يثير الاشمئزاز أن بعض الأشخاص، موضوع حديثنا، لا يملون من تذكير القراء أو المستمعين بأنهم قوميون وأن فلسطين هي قضيتهم الوطنية قبل أن تكون القضية القومية، وأن وأن... إلخ. فما دام البعض يقول إنه قومي، وفي الوقت نفسه يمنّ على فلسطين القضية والشعب بأنه يقف إلى جانب النضال وأنه قدّم الغالي والنفيس في سبيلها فإنه في الوقت ذاته يجعل من قوله ادعاءً ليس غير، ومن غير الممكن إثبات صحته.
وثمة من يربط تذكيرنا بأن الأزمات التي تمرّ بها بلاده هي بسبب فلسطين، لينطلق للتنديد بمشاركة فلسطينيين في القتال إلى جانب هذا الطرف أو ذاك في سوريا وفي مصر وفي غيرها من بلادنا، وهو أمر مستنكر ومدان بالمطلق. لكن من الضروري الآن إعادة التذكير بأن تلك المشاركات في الحروب والصراعات ذات الجوهر المذهبي، كائنةً ما كانت اليافطة التي تحاول الاختفاء خلفها، لم تتم من منطلق وطني أو قومي. فالطبيعة المذهبية لتلك الحروب المدمرة لكل الأطراف تجرد المشارك فيها من صفته الوطنية، أي بالبعد الجغرافي، وتجعل منها محارباً مذهبياً لا أكثر. فالانتماء الوطني لشخص ما يجعله، بديهياً محارباً من أجل قضيته. لذا، فإن أي بندقية «فلسطينية» أو حتى «عربية» توجه إلى غير العدو الصهيوني تكون بندقية ضالة يقودها فكر تائه. وفي هذا المقام فإن كل الجهود الفلسطينية يجب أن تتركز على محاربة العدو الصهيوني وحلفائه، أياً كانوا. فمعركة الشعب الفلسطيني من أجل تحرير فلسطين واستبدال الدولة الفلسطينية العلمانية بالكيان الصهيوني العنصري. فتصويب البندقية نحو العدو العنصري المغتصب، من أجل فلسطين، هو ما سيوحد كل محب لفلسطين حرة عربية، وفي الوقت نفسه سيفضح على نحو جلي كل مدعٍ ومتاجر بالقضية وعميل للعدو. لذا نكرر القول: كل البنادق نحو العدو الصهيوني.
مهمة الفلسطيني، المؤمن بقضيته بصفتها قضية تحرر وطني/ قومي، تصويب كل جهده المادي والمعنوي لمحاربة العدو الصهيوني وليس محاربة الأشقاء، أياً كان المعسكر الذي إليه ينتمون. على الفلسطيني أن يقول: أنا أحارب من أجل فلسطين، ومن يحارب العدو الصهيوني يكن معي. ففي كل الدول العربية؛ في لبنان وسوريا ومصر والسودان والعراق والأردن والبحرين وليبيا... ما يكفي من الحكماء والمجانين، لوقف الحروب أو لتصعيدها، ومهمتنا إقناع كافة الأطرف العربية المتنازعة والمتحاربة بأن فلسطين توحدنا، وتحرير فلسطين يحررنا جميعنا، ففلسطين بوصلتنا.
في الماضي انخرطت قيادة الهزائم في صراعات جانبية عربية وغير عربية (من ينسى إرسالها قوات للحرب إلى جانب قوات عيدي أمين في أوغندا، في الوقت الذي كانت تستجدي فيه اتفاق وقف إطلاق نار مع العدو الصهيوني!). إن سياسات قيادات الهزيمة السابقة والحالية التي تنغمس في معارك لا علاقة لتحرير فلسطين بها، قد جلبت ما يكفي من الكراهية في صفوف شعوب عربية متضررة من مغامراتها السقيمة وعديمة الجدوى، وفتحت الباب على مصراعيه أمام القوى الموتورة التي تبحث عن عذر، مهما كان تافهاً، للتشهير بالشعب الفلسطيني ونضالاته عبر التاريخ، والتحريض عليه وعلى التصالح مع العدو الصهيوني، والذي لا يمكن أن يتم إلا على حسابنا، شعباً ووطناً وقضية.
عود على بدء، إن من يضحي من أجل قضية ما يعدها قضيته لا يمن على الغير بخدماته «الجليلة» لها من باب التضامن. فإما أنها قضيته وعندها عليه الصمت والتوقف عن التمنين والتباهي الفارغ، أو أن قوله بالانتماء القومي ادعاء كاذب وانتحال صفة.
فلسطين لديها محبوها، الصادقون، وكلما كثروا، اقتربنا من وطننا أكثر. فلسطين في حاجة إلى دعم كل محبي العدالة الإنسانية في العالم، الذين يأتون إليها من دون شروط ومن دون ادعاءات، صادقة كانت أو كاذبة.
فلسطين في حاجة إلى كل تضامن صادق، لكنها في غنى عن مدعي التضامن ممن يمنون علينا وعليها بنضالاتهم العتيدة، التي، إن بالغنا ما بالغنا، نجد أنها في أغلب الأحيان لا تتجاوز بضع مقالات أو خطابات نارية أو ثلجية! هنا أو هناك. إن من يمن على فلسطين بتضامنه نقول له: فلسطين في غنى عنك وعن تضامنك. لفلسطين سواعد ستحررها وشعب وأمة لن ينساها. ولمن يمن علينا نسأله: هل تعرف اسم آخر مناضل فلسطيني أو عربي سقط شهيداً وهو يحارب من أجل تحرير فلسطين!
فلسطين لم يضيعها أهلها، والحقائق الموثقة تفقأ عيون مرددي دعاية العدو من الصهاينة العرب. من باع فلسطين للعدو الصهيوني كانت أنظمة سايكس ــ بيكو التي بعضها لا يزال قائماً. هذه حقيقة تاريخية وجب عدم نسيانها، وهذا لا يتناقض إطلاقاً مع حقيقة أن بعض قيادات المؤسسة السياسة الفلسطينية دخلوا، قبل اغتصاب فلسطين عام 1948 وبعد ذلك التاريخ، في مساومات رخيصة ومبتذلة مع العدو على القضية الوطنية/ القومية لم نتوقف يوماً عن إدانتها بما تستحقه من تعبيرات ومصطلحات. ولم نتردد في إطلاق النعوت اللائقة بقيادة كهذه لا تعرف سوى إطلاق صفة النصر على مسيرتها السياسية التي تتلخص بكلمة: الهزيمة تلو الهزيمة تلو الهزيمة.
وهناك من لا يكف عن الادعاء بأنه قدّم هذا أو ذاك من عائلته شهيداً، أو أن عائلته أو بلدته... إلخ قدّمت عدد كذا من الشهداء. هنا لا بد أن نوضح الأمور كما وجب. لا أحد يقدّم غيره شهيداً، مهما كانت صفة القرابة بين الطرفين أو الأطراف. فقط الشهيد هو من يقدمّ روحه فداءً لقضية يؤمن بها، ولذا يكون جثمانه الطاهر أو قبره أو موته إن فقد جثمانه (وهنا نفهم معنى إقامة ضريح للجندي المجهول) شاهداً على تضحيته السامية، ويكون هو الشهيد الذي قدّم نفسه للقضية الكبرى التي آمن بها.
أخيراً نكرّر القول لكل قومي مدع، لا يدع فرصة تفوته ليمن علينا وعلى وطننا المغتصب بمواقفه وتضحياته، الحقيقية أو المزعومة: فلسطين في غنى عنكم.