وانتهى الأمر إلى وقوع الانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة وغزة، وطغيان الصراع على السلطة التي "بلا سلطة" على كل شيء...
أثار المقال السابق "حول ماذا أكتب؟" بما تضمّنه من غضب وحيرة اهتمامًا أكثر ما كنت أتوقع بالإجمال من الاهتمام الذي تثيره المقالات الأخرى، لدرجة وصلني تعليق يحثني صاحبه المميز على الاستمرار في الكتابة، "لأن لها جدوى حتى لو لم يكن لها تأثير عملي مباشر، وهذا النوع من الكتابة يجب ألا ينقطع، لأنه في النهاية هو صوت الضمير الفلسطيني العام، ولا يجب إسكات صوت الضمير".
الردود بالإجمال استحسنت حالة الألم والتردد وغياب اليقين التي تسللت إلى المقال السابق، لأن هذه الحالة هي المسيطرة في هذه الفترة على الشريحة التي تقرأ في العادة المقالات التي أكتبها؛ الشعور بالغضب والعجز إزاء ما يتعرّض له مخيم اليرموك بسبب الارتباك الذي نجد فيه القيادة والقوى الفلسطينيّة المختلفة، فحتى هذه اللحظة لم تعقد اللجنة التنفيذيّة أي اجتماع، ولو من قبيل "ذر الرماد في العيون"، أما وفد اللجنة التنفيذيّة برئاسة أحمد المجدلاني فحاله كحال من "أجا تا يكحلها عماها"، فهكذا بدا الأمر لأنه أعلن "أن لا حل لما يجري في اليرموك سوى الحل العسكري، وأنّ هناك 14 فصيلًا اتفقوا على التعاون مع الجيش السوري لتحريره من داعش"؛ لنتفاجأ بعد ساعات قليله بصدور تصريح من قيادة المنظمة بأنها لا تزال عند موقفها السابق، ما يعني سحب الغطاء عن تصريحات المجدلاني (مع استمراره بترديدها حتى بعد النفي الرسمي) من دون أن تقدم المنظّمة أي حلول، أي أن مأساة اليرموك ستبقى مستمرة.
قال لي صديقي الغاضب جدًا إننا يجب بعد أن أصبح خبر ما يجري في اليرموك مسيطرًا على كل وسائل الإعلام على امتداد العالم؛ أن نتناول السياسة الفلسطينيّة المشغولة فقط بوقف حجز الأموال الفلسطينيّة من "إسرائيل"، وقضيه دحلان، والمناكفات بين سلطتي الضفة وغزة، ومصير الموظفين الذين عينتهم حكومه حماس، ودخول الشرطة إلى بلدة «الرام»، وما يجري في «مخيم بلاطة»، وقانون تحويل سلطة النقد إلى بنك مركزي، ونتائج إعادة تقييم السياسة الأميركيّة، ومضمون المبادرة الفرنسيّة؛ والغائبة بشكل يكاد يكون كليًّا عما يجري في اليرموك خصوصًا، وما يجري لشعبنا في الشتات عمومًا، أي أنها لا تتصرف بوصفها قيادة لكل الشعب الفلسطيني، وإنما مجرد سلطة حكم ذاتي محدود على الضفة وغزة، وذلك كإحدى النتائج المرّة لاتفاق أوسلو الذي فصل القضيّة عن الشعب والأرض، وحوّلها إلى قضايا وأراضٍ وشعوب، ما أدى إلى شعور فوري من شعبنا في أراضي 48 أنه تُرك ليواجه مصيره وحيدًا، وشعور مؤجل من شعبنا في الشتات الذي انكشف ظهره تمامًا بعد "أوسلو" وتُرك وحيدًا يدفع الثمن غاليًا جرّاء غياب الممثل الشرعي الوحيد.
وانتهى الأمر إلى وقوع الانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة وغزة، وطغيان الصراع على السلطة التي "بلا سلطة" على كل شيء، وشعور كل منها والقدس أنها وحدها تواجه الحصار والعدوان والمجازر، أو الهجمة الاستيطانيّة العدوانيّة المكثّفة التي تسابق الزمن لاستكمال تحقيق المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني بالاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من أرض فلسطين وتهويدها، وطرد أكبر عدد ممكن من الفلسطنيين أصحاب البلاد الأصليين.
هناك من يقول إن ليس في اليد حيلة، وأنّ ما يفعله الرئيس أنسب ما يمكن أن يُفْعَل، لأن اختلال ميزان القوى والعواصف التي تهب في المنطقة المضعِفة للعرب أدت إلى تراجع اهتمامهم بالقضيّة الفلسطينيّة، ما يجعل الانحناء ريثما تمرّ العاصفة هو السياسة السليمة.
نعم، إننا في مرحلة لا نستطيع أن نفرض حلنا، أو نتوصل فيها إلى تسوية تحقق الحد الأدنى من حقوقنا عن طريق التفاوض، والأرض وما عليها تميد بِنَا وتتهددنا بالثبور وعظائم الأمور، ولكن المشكلة أن رئيسنا وقيادتنا وجُلّ فصائلنا لا يزالون يتوهمون أن "الدولة" أو "الدولة المؤقتة" التي مركزها الضفة أو غزة على الأبواب أو على مرمى حجر، وبعد أن يئسوا من تحقيق ذلك عن طريق المفاوضات الثنائيّة برعاية أميركيّة تسلل إلى عقولهم وهم جديد بأن الحل سيكون عن طريق حلّ يُفرض على الطرفين دوليًا من خلال عقد مؤتمر دولي.
ما سبق يعني الانتقال من وهم قديم إلى وهم جديد. فالمطلوب أخذ العبر من نتائج الطريق الذي سرّنا فيه منذ أكثر من 25 عامًا وأوصلنا إلى الكارثة التي نحن فيها، فلم تتحقق الدولة على حدود فلسطين العام 1967، ولم تتحرر فلسطين من النهر إلى البحر. والمطلوب أيضًا أخذ المتغيرات الهائلة والحقائق الجديدة، بما فيها أن "إسرائيل" تتجه نحو المزيد من التطرّف والعنصريّة، وأنها لا تبحث عن تسوية بل تعمل على فرض حلها، وهي قد لا تستطيع تحقيقها الآن وفورًا، لكنها قادرة على رفض أي تسوية سيحاول المجتمع الدولي فرضها على الطرفين، لأنها وأصدقاءها في أميركا قادرون على كسب الموقف الأميركي أو منعه من المساهمة بجهود دوليّة تريد فرض تسوية لا ترضاها "إسرائيل".
بدلًا من ذلك، يجري التعلق مجددًا بالجهود الرامية إلى عقد مؤتمر دولي يسعى لفرض حلّ على الطرفين، مع أن هذا إذا حصل يمكن أن يؤدي إلى احتمالات ثلاثة أحلاها مرّ: أولها، إضاعة المزيد من الوقت في التحضير للمؤتمر، ومن يشارك فيه، وتحديد أسسه ومرجعيته، وما يمكن أن ينتهي إليه؛ الذي ستستغله "إسرائيل" لاستكمال فرض الأمر الواقع الذي يناسبها. وثانيها، عقد المؤتمر والفشل في تحقيق اتفاق أو التوصل إلى تسوية. وثالثها، فرض تسوية يقال إنها متوازنة، ولكنها ستأخذ بالحسبان موازين القوى والأوضاع الفلسطينيّة والعربيّة والإقليميّة الراهنة، ما يعني أنها ستكون تسوية سيئة، ومحتمل أن تكون أسوأ من "اتفاق أوسلو".
لا يوجد أي مبالغة في هذا الاستنتاج، فالضعف والانقسام، وغياب المؤسسة الوطنيّة الجامعة وبرنامج القواسم المشتركة، وشلل المنظمة وتغييب الشعب، وترك كل تجمع فلسطيني يواجه مصيره منفردًا؛ لا يقود إلى تسوية تحقق الحد الأدنى، أو حتى تكون مرضية، وإنما إلى تسوية تعكس الأمر الواقع السيئ كليًا، أو إلى حد كبير على الأقل.
هل يعني ما سبق القبول بما هو كائن والتعايش معه، أم الاستسلام وقبول أي شيء بحجة أن أي شيء أفضل من لا شيء، أم التهور والمغامرة والقفزات البهلوانيّة وحرق المراحل؟
هناك بديل من ذلك كله، يتمثل بالاعتراف بالأمر الواقع والتعامل معه من أجل تغييره وفقًا للإمكانيات المتاحة في كل مرحلة، والعمل على بلورة رؤية شاملة تكون بمثابة "خارطة طريق" توضّح أين نقف الآن، وإلى أين نريد الوصول، وكيف يمكن الوصول إلى ذلك؟ فلا ينفع أن نكتفي بتحديد أين نقف الآن، أو بأن نعرف ما نريد تحقيقه، بل يجب تحديد الأهداف الممكنة في كل مرحلة، والإستراتيجيات الكفيلة بتحقيقها، بما يسمح بوضع أهداف جديدة على طريق إنجاز الحلّ الوطني في النهاية، الذي يحفظ الحقوق الطبيعيّة والتاريخيّة للشعب الفلسطيني.
نحن نعيش في مرحلة حرجة تجعل أي خطأ جوهري في التشخيص سيؤدي إلى خطأ أكبر في العلاج، وأي خطأ في تحديد ما نريد سيجعلنا نعيش في متاهة جديدة. وسأحاول الإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة في مادّة لاحقة، وتحتاج الإجابة الشاملة عنها إلى جهد وطني جماعي.