نافذ أبو حسنة في مطار عربي، سألني الضابط: متى غادرتم القدس؟ حسبته يمزح. قلت له: منذ نحو ساعتين، ولكن الجدية التي أظهرها الرجل في تلقي الإجابة مع إشارته إلى أن المدينة تعد قريبة، جعلتاني أعيد تصحيح المعلومة. أخبرته أن القدس محتلة. وأنني آت من بلد عربي آخر. علت وجهه معالم الحيرة. لست أدري هل شعر بشيء من الخجل؟ أشفقت على نفسي وعليه، وتابعت طريقي. أول ما لفتني في عاصمة بلده تلك الشعارات المكتوبة بكل أنواع الخطوط، وبلون واحد وهي تغطي الجدران.
رويت الواقعة لصديق فلسطيني، فروى لي حكاية أخرى عن ضابط عربي بدا مستاءً من أن «الجيش الفلسطيني» يترك الأطفال وحدهم مع حجارتهم في مواجهة جيش الاحتلال من دون أن يتدخل. حدث هذا إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987!
تروى هذه الوقائع وأخرى شبيهة على سبيل النكتة. وقد استمعت إلى بعضها وهي تتناول حكاما وملوكا وأمراء. بعض الرواة كانوا في مواقع مسؤولية، ويذكرون وقائع محددة ومناسبات وأسماء، فلم أعد متيقنا من مدى الفرق بين الحقيقة والتشنيع.
تذكرت كل هذا وأنا أتابع ما فعله مقدم البرامج المصري، أحمد موسى، على شاشة تلفزيون «البلد» وردود الفعل عليه. موسى في سياق حملته الصارخة على الفلسطينيين الذين يختصرهم بـ«حماس»، اتهم قادة «كتائب الشهيد عز الدين القسام» بأنهم من «وشى بالشيخ القسام إلى الموساد الذي اغتاله»، ثم أطلقوا اسمه على كتائبهم المسلحة. نعم، هكذا بكل بساطة وثقة!
اللافت أن من تولوا الرد عليه سعوا إلى توضيح الحقيقة التاريخية عن استشهاد القسام في معركة أحراج يعبد قرب مدينة جنين عام 1935، أي قبل عشرات السنين من ظهور الكتائب التي تحمل اسم الشهيد الكبير. وبقدر ما يثيره تجني المذيع من الغضب والاستياء، فإن الردود تثير الشفقة. يتحدث المذيع من وسط بيئة تشن حملة شيطنة على الفلسطينيين، ويتلقفه جمهور مستعد لتصديق كل شيء، وليس مطلوبا منه أن يكون عارفا بالتاريخ ووقائعه.
أساسا، شن مقدمو الشاشات العربية حملة كريهة وبغيضة على التاريخ إنكارا وتزييفا ورفضا لأي توضيح يتصدى له متحدث جاد. أما من تولوا الردود، فتبادلوا معلومات معروفة في ما بينهم على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، ولم تصل أصواتهم إلى حيث يجب أن تصل. أساسا هناك صمم مقصود للآذان عن توضيحات تخص التاريخ، وفلسطين بالذات.
ما فعله موسى ليس واقعة منفردة أو فريدة. بل هو جزء من حملة أساسها الجهل، وهدفها الشيطنة المراد تكريسها عبر التجهيل. لا يتسع المقام لذكر عشرات الوقائع عن إخراج موتى من قبورهم لاتهامهم بعمليات قتل، ولا عن وحدات مقاتلة عبرت الصحراء لنصرة هذا على ذاك. مضى وقت طويل على هذه الحملة التي اشترك فيها الجميع، في زمن الرئيس المعزول، محمد مرسي، إذ وجه الإعلام المصري اتهامات إلى «حماس»، ثم وجهت جماعة الإخوان المسلمين اتهامات بالمحتوى نفسه إلى محمد دحلان... لم تخسر «حماس»، ولم يخسر دحلان، فقد خسرت فلسطين.
ثمة خشية من إيراد الحقائق كما هي. لا النخب ولا الإعلام المصري بصدد معالجة جدية أو فهم حقيقي لما تشهده منطقة سيناء. الأسهل من كل هذا أن يجري اللجوء إلى تطهير الضمائر باتهام طرف آخر وتحميله مسؤوليات كبرى تتعدى طاقته، وقدرته على الفعل. وثمة نيات كثيرة وراء إخفاء الحقائق.
من حق كثيرين طرح السؤال عما يحدث: هل هو ناتج عن جهل قائم أم تجاهل مقصود؟ إلى أن تتضح حقائق تتيح الإجابة عن السؤال، يمكن القول: نجحت خطة شيطنة الفلسطينيين. نرى الكثير من النتائج المترتبة على هذا النجاح، وسوف نرى ما هو أكثر!