Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

شيء اسمه الكرامة... فهمي هويدي

 شيء اسمه الكرامة... فهمي هويدي

في أحد اجتماعات مؤتمر دافوس الذي عقد عام 2005 بالبحر الميت (الأردن) لمناقشة سبل إنجاح السلام وتحقيق التعاون الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية، كان المشاركون مجموعة من رجال الأعمال والسياسيين العرب والإسرائيليين.

 

وخلال الاجتماع تركزت المناقشة حول عملية الإعمار المقترح تنفيذها لإنعاش الضفة الغربية.

وجرى الحديث عن مشروعات للإسكان وخطط للتنمية الصناعية والزراعية، وما يمكن أن يترتب على تنفيذها من عمالة وزيادة في الصادرات ورواج في الأسواق.

وفي ختام الجلسة التي أثير فيها الموضوع طلب الكلمة افريام سنيه الذي كان آنذاك نائبا لوزير الدفاع الإسرائيلي. وشغل قبل ذلك منصب الحاكم العسكري للضفة أثناء الانتفاضة الأولى (عام 1987).

ومما قاله إن المناقشات التي جرت أثارت عديدا من الموضوعات المهمة، لكنها جرت في الاتجاه الغلط.

وشرح للجالسين أنه أثناء توليه منصبه في الضفة كانت الأوضاع الاقتصادية في أحسن أحوالها، وبلغ الانتعاش في المجتمع الفلسطيني ذروة لم يبلغها من قبل، حتى منذ العهد العثماني، الأمر الذي يعني أن الناس لم يكونوا يعانون من قسوة الضغوط الاقتصادية وأعباء المعيشة، ومع ذلك انفجر غضبهم بشكل عارم فاجأ السلطة الإسرائيلية.

(في 8 ديسمبر من ذلك العام دهست شاحنة يقودها إسرائيلي سيارة كان يستقلها عمال فلسطينيون من جباليا، فقتلت أربعة منهم وجرحت آخرين، وأثناء جنازتهم قام المشيعون بإلقاء الحجارة على موقع للجيش الإسرائيلي في جباليا، وكانت تلك الشرارة التي أطلقت ما عرف بانتفاضة الحجارة التي فجرت بركان الغضب في الساحة الفلسطينية من الضفة إلى القطاع).

ختم الجنرال سنيه حديثه بقوله إن الاقتصاد مهم للغاية، لكن الكرامة أهم منه عند الناس.

وينبغي ألا ينسى الاقتصاديون والسياسيون هذه الحقيقة التي تعلمها هو من انتفاضة عام 1987. إذ الأكيد أنه لم تكن هناك مشكلة اقتصادية حقيقية في الواقع الفلسطيني، ولكن المشكلة كانت في شعور الناس بأن الاحتلال الإسرائيلي أهانهم وأهدر كرامتهم.

من ثم فالتحدي الحقيقي والاستقرار الحقيقي لن يتوافر فقط من خلال إنجاح مشروعات التنمية الاقتصادية، ولكن مفتاح الاستقرار الأكبر يكمن في إشعار الناس بأن كرامتهم محفوظة وأن كبرياءهم محل الاحترام.

حين سمعت القصة من بعض شهود الاجتماع لم يضايقني فيها سوى أنني وجدت نفسي متفقا في الرأي لأول ــ وربما آخرــ مرة مع كلام مسؤول إسرائيلي.

حتى قلت إن الرجل كان صادقا وأمينا فيما قاله وأنه وضع يده على نقطة بالغة الأهمية، تتجاهلها حكومة إسرائيل ويتجاهلها كثيرون من أهل السياسة، الذين يحاولون تجنب غضب الجماهير وامتصاص نقمتهم عن طريق استرضائهم بإغداق الأموال والعطايا عليهم، وينسون أن الناس تهمهم كرامتهم بأكثر مما يهمهم رغد العيش الذي يراد لهم أن ينشغلوا به. في التجربة الجزائرية درس من هذا القبيل.

ذلك أن بعض الحكام الفرنسيين تصوروا أن ثورة الجزائريين يمكن أن تهدأ إذا ما قامت سلطة الاحتلال بتنفيذ مشروعات الإسكان والتنمية، وظلوا لسنوات طويلة يتحدثون عن الجهود التي يبذلونها لحل المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها الجزائريون، إلا أن بصيرة الجنرال شارل ديجول جعلته يدرك أن مشكلة الجزائر تحل باستقلال البلاد ورحيل فرنسا، أي من خلال إعادة الكرامة للجزائريين. وهو ما تحقق في عام 1961.

ثمة لغط في أوساط بعض المثقفين الخليجيين حول هذه المسألة.

وسمعت من بعضهم كلاما متواترا عن العطايا والمزايا التي تغدق عليهم بين الحين والآخر، وكيف أنها تلبي لهم أشواقا وطموحات كثيرة، ليس من بينها حقهم في الكرامة.

الذي يرونه متمثلا في حظهم من المشاركة والمساءلة وفي الاحتكام إلى قانون يخضع له الجميع بلا استثناء، وفي التعامل معهم كمواطنين لهم صوت وليس كرعايا ليس أمامهم سوى الامتثال والخضوع.

تحضرني قصة تجاهل مسألة الكرامة هذه كلما طالعت في الصحف المصرية أخبار الإغراءات والعطايا التي تعرض في المناسبات المختلفة على أهالي سيناء.

وهي التي تتراوح بين هدايا الأغذية والخيام والبطاطين وبين وعود مشروعات التنمية التي يلوح بها المسؤولون في الحكومة المصرية بين الحين والآخر.

ولا يشك أحد في أن ما يقدم إليهم أو ما يوعدون به يلبي احتياجات قطاعات عريضة من أبناء سيناء، لكن ذلك كله لا يعوض الكرامة التي يفتقدونها، في ظل عمليات القمع والسحق التي يتعرضون لها من جانب الأجهزة الأمنية التي تتعامل معهم بخشونة مفرطة لا تميز بين الأبرياء والمذنبين، وتعتمد سياسة «التمشيط» والتجريف التي تطيح بكل ما تصادفه وتعرض كثيرين لخسائر فادحة وإهانات لا ينسونها.

وهو يشعر الناس بالهوان والانكسار، ويخلف ثارات عميقة بينهم وبين السلطة وممثليها.

إن إشباع البطون والغرائز يرضي الحيوان في الإنسان، ووحده الحفاظ على الكرامة هو الذي يشعر الإنسان بإنسانيته.

في أحد اجتماعات مؤتمر دافوس الذي عقد عام 2005 بالبحر الميت (الأردن) لمناقشة سبل إنجاح السلام وتحقيق التعاون الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية، كان المشاركون مجموعة من رجال الأعمال والسياسيين العرب والإسرائيليين.

وخلال الاجتماع تركزت المناقشة حول عملية الإعمار المقترح تنفيذها لإنعاش الضفة الغربية.

وجرى الحديث عن مشروعات للإسكان وخطط للتنمية الصناعية والزراعية، وما يمكن أن يترتب على تنفيذها من عمالة وزيادة في الصادرات ورواج في الأسواق.

وفي ختام الجلسة التي أثير فيها الموضوع طلب الكلمة افريام سنيه الذي كان آنذاك نائبا لوزير الدفاع الإسرائيلي. وشغل قبل ذلك منصب الحاكم العسكري للضفة أثناء الانتفاضة الأولى (عام 1987).

ومما قاله إن المناقشات التي جرت أثارت عديدا من الموضوعات المهمة، لكنها جرت في الاتجاه الغلط.

وشرح للجالسين أنه أثناء توليه منصبه في الضفة كانت الأوضاع الاقتصادية في أحسن أحوالها، وبلغ الانتعاش في المجتمع الفلسطيني ذروة لم يبلغها من قبل، حتى منذ العهد العثماني، الأمر الذي يعني أن الناس لم يكونوا يعانون من قسوة الضغوط الاقتصادية وأعباء المعيشة، ومع ذلك انفجر غضبهم بشكل عارم فاجأ السلطة الإسرائيلية.

(في 8 ديسمبر من ذلك العام دهست شاحنة يقودها إسرائيلي سيارة كان يستقلها عمال فلسطينيون من جباليا، فقتلت أربعة منهم وجرحت آخرين، وأثناء جنازتهم قام المشيعون بإلقاء الحجارة على موقع للجيش الإسرائيلي في جباليا، وكانت تلك الشرارة التي أطلقت ما عرف بانتفاضة الحجارة التي فجرت بركان الغضب في الساحة الفلسطينية من الضفة إلى القطاع).

ختم الجنرال سنيه حديثه بقوله إن الاقتصاد مهم للغاية، لكن الكرامة أهم منه عند الناس.

وينبغي ألا ينسى الاقتصاديون والسياسيون هذه الحقيقة التي تعلمها هو من انتفاضة عام 1987. إذ الأكيد أنه لم تكن هناك مشكلة اقتصادية حقيقية في الواقع الفلسطيني، ولكن المشكلة كانت في شعور الناس بأن الاحتلال الإسرائيلي أهانهم وأهدر كرامتهم.

من ثم فالتحدي الحقيقي والاستقرار الحقيقي لن يتوافر فقط من خلال إنجاح مشروعات التنمية الاقتصادية، ولكن مفتاح الاستقرار الأكبر يكمن في إشعار الناس بأن كرامتهم محفوظة وأن كبرياءهم محل الاحترام.

حين سمعت القصة من بعض شهود الاجتماع لم يضايقني فيها سوى أنني وجدت نفسي متفقا في الرأي لأول ــ وربما آخرــ مرة مع كلام مسؤول إسرائيلي.

حتى قلت إن الرجل كان صادقا وأمينا فيما قاله وأنه وضع يده على نقطة بالغة الأهمية، تتجاهلها حكومة إسرائيل ويتجاهلها كثيرون من أهل السياسة، الذين يحاولون تجنب غضب الجماهير وامتصاص نقمتهم عن طريق استرضائهم بإغداق الأموال والعطايا عليهم، وينسون أن الناس تهمهم كرامتهم بأكثر مما يهمهم رغد العيش الذي يراد لهم أن ينشغلوا به. في التجربة الجزائرية درس من هذا القبيل.

ذلك أن بعض الحكام الفرنسيين تصوروا أن ثورة الجزائريين يمكن أن تهدأ إذا ما قامت سلطة الاحتلال بتنفيذ مشروعات الإسكان والتنمية، وظلوا لسنوات طويلة يتحدثون عن الجهود التي يبذلونها لحل المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها الجزائريون، إلا أن بصيرة الجنرال شارل ديجول جعلته يدرك أن مشكلة الجزائر تحل باستقلال البلاد ورحيل فرنسا، أي من خلال إعادة الكرامة للجزائريين. وهو ما تحقق في عام 1961.

ثمة لغط في أوساط بعض المثقفين الخليجيين حول هذه المسألة.

وسمعت من بعضهم كلاما متواترا عن العطايا والمزايا التي تغدق عليهم بين الحين والآخر، وكيف أنها تلبي لهم أشواقا وطموحات كثيرة، ليس من بينها حقهم في الكرامة.

الذي يرونه متمثلا في حظهم من المشاركة والمساءلة وفي الاحتكام إلى قانون يخضع له الجميع بلا استثناء، وفي التعامل معهم كمواطنين لهم صوت وليس كرعايا ليس أمامهم سوى الامتثال والخضوع.

تحضرني قصة تجاهل مسألة الكرامة هذه كلما طالعت في الصحف المصرية أخبار الإغراءات والعطايا التي تعرض في المناسبات المختلفة على أهالي سيناء.

وهي التي تتراوح بين هدايا الأغذية والخيام والبطاطين وبين وعود مشروعات التنمية التي يلوح بها المسؤولون في الحكومة المصرية بين الحين والآخر.

ولا يشك أحد في أن ما يقدم إليهم أو ما يوعدون به يلبي احتياجات قطاعات عريضة من أبناء سيناء، لكن ذلك كله لا يعوض الكرامة التي يفتقدونها، في ظل عمليات القمع والسحق التي يتعرضون لها من جانب الأجهزة الأمنية التي تتعامل معهم بخشونة مفرطة لا تميز بين الأبرياء والمذنبين، وتعتمد سياسة «التمشيط» والتجريف التي تطيح بكل ما تصادفه وتعرض كثيرين لخسائر فادحة وإهانات لا ينسونها.

وهو يشعر الناس بالهوان والانكسار، ويخلف ثارات عميقة بينهم وبين السلطة وممثليها.

إن إشباع البطون والغرائز يرضي الحيوان في الإنسان، ووحده الحفاظ على الكرامة هو الذي يشعر الإنسان بإنسانيته.