ربما هذا العام هو الأسوء على الشعب الفلسطيني.. حيث الإنقسام والحصار وغياب الإعمار وإغلاق المعابر في قطاع غزة، وأوضاع الناس تزداد سوءاً ففي الشتاء، وفي ظل البرد القارس المشردين بفعل الحرب العدوانية الإسرائيلية الأخيرة، ما زال أكثر من مئة ألف منهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء..
والقدس "تغول" و"توحش" استيطاني غير مسبوق وسياسة عقاب جماعي.. هدم منازل أهالي الشهداء والطرد والإبعاد للمقدسيين عن بلدتهم ومدينتهم، وإغلاقات لمداخل البلدات المقدسية بالمكعبات الإسمنتية.. واعتقالات طالت حتى الأطفال وتوزيع أوامر لهدم بيوت شيدت منذ عشرات السنين وغيرها.
نزيف دم متواصل وشهيداً يودع شهيداً، وجريمة العصر، حرق الشهيد الفتى أبو خضير حياً، بعد خطفه وتعذيبه، وفي الضفة الغربية لم تتحسن أحوال شعبنا فالوضع ليس بأحسن حال سلطة بدون سلطة.. مرتبكة ومتخبطة.. تراوح وتدور في نفس المربع حول نهج وخيار تفاوضي عقيم.. حتى مشروعها لمجلس الأمن الدولي جوف وأصبح سحبه من التداول أفضل، لما فيه من تنازلات تمسّ القدس وحق العودة والحدود والثواب الوطنية، ولا أفق لمصالحة أو رسم استراتيجية فلسطينية موحدة، بل نشهد مواصلة لمسلسل الردح والردح المضاد، وكذلك التحريض، وعبارات التكفير والتخوين والتآمر والخيانة.
وحال شعبنا وأهلنا في الداخل الفلسطيني -الجذر-، ليس بالأفضل، فعدا عن كل "القوانين والتشريعات" والقرارات المستهدفة تصفية وجودهم هناك، فلعل المشروع الأخطر في هذا الإطار والسياق، هو مشروع "يهودية الدولة"، هذا المشروع الذي يشكل تعدٍ صارخ على حقوق شعبنا الفلسطيني التاريخية، ويراد منه شطب حق العودة للاجئي شعبنا الذين هجروا وطردوا قسراً على يد المنظمات الصهيونية المسلحة، وكذلك يحمل هذا القرار قوننة وتشريعاً للعنصرية والممارسات والإجراءات المرتبطة بها بحق شعبنا هناك، ناهيك عن أن الأهداف الأخرى منه، تريد منا كفلسطينيين وعرب، أن نؤمن بالفكرة الصهيونية ونقرّ بالرواية الصهيونية حول طبيعة الصراع والوجود والحقوق، يريدون منا أن ندين تاريخنا، ونتنكر لكل نضالات وتضحيات شعبنا، بإعتبارها أعمالاً "إرهابية"، وبأن الحركة الصهيونية، هي ليست حركة عنصرية، بل حركة "تحرير وطني".
وحالة شعبنا في مخيمات اللجوء، ليست بالأفضل من هذا الواقع والحال، فكل الصراعات والخلافات العربية، خلافات الأقطار مع بعضها البعض وخلافاتها وصراعاتها الداخلية، شعبنا في أغلب الحالات الضحية ويدفع الثمن، طرد وتهجير ولجوء جديد، ومطاردة في الحقوق والوجود المؤقت ولقمة العيش، وإن كنا نقرّ بأن سوء تصرّف وحشر أنفها واستخدامها من قبل الأنظمة او الدول، بعض من فصائلنا قد ساهم وأعطى الذريعة للأنظمة العربية، لكي تمارس القمع والحصار والقتل والطرد بحق أبناء شعبنا.
علينا أن نعترف بأن أداء قياداتنا، ليس بحجم تضحيات شعبنا، بل نرى أنها أحياناً في واد والجماهير الشعبية في واد آخر، وحتى داخل الفصيل الواحد تجد تعارض وليس تعدد إجتهاد وحرية رأي وتعبير، فهي أبعد عن ذلك في التصريحات والمواقف والنهج، وفي قضايا مفصلية وجوهرية، وجدنا بأن الجماهير الشعبية متقدمة على القيادة في الموقف والفعل، وهذا ما لمسناه جيداً في الهبات الجماهيرية المقدسية، حيث غابت الإرادة السياسية للقيادة، وغابت القوى والأحزاب عن الفعل والتنظيم والقيادة، وكذلك غاب الهدف والمشاركة الجماهيرية الواسعة، ولذلك غلب على هذه الهبات طابع العفوية والعمل الفردي، والتحرك للدفاع عن الذات. وكذلك في الحرب العدوانية الأخيرة على قطاع غزة، ورغم سقوط أكثر من ألفي شهيد، فإنها لم تكن كافية لكي تشعل الضوء ما بعد الأحمر أمام القيادة، من أجل أن تتجاوز كل خلافاتها وفئويتها وتشنجاتها، وترسم استراتيجية فلسطينية جديدة، تضع حداً للإنقسام المدمر، وتوحد شطري أو جناحي الوطن، وتتفق على استراتيجية جديدة، تلتف حولها فصائلنا وجماهيرنا الشعبية.
وفي قضية تقديم المشروع الفلسطيني إلى مجلس الأمن الدولي، من أجل تحديد سقف زمني لإنهاء الإحتلال عن الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ظهرت المراهقة السياسية للقيادة الفلسطينية، وإرباكها وتخبطها وتعدد تصريحاتها وقراراتها، وبما يشعر شعبنا الفلسطيني، بأنه لا وجود لقيادة فلسطينية، وبما يعمق من حالة فقدان الثقة بالقيادة.
عام مضى وعام يأتي، ونستمر في "لوك" نفس الكلمات والشعارات والخطابات، وترداد نفس السجع والطباق والجناس، وكأن كل المتغيرات والتطورات المحيطة بنا عربياً وإقليمياً ودولياً، وما يقوم به الإحتلال من إجراءات وممارسات من قضم مستمر للأرض الفلسطينية، وسيطرة على القدس وتقسيم للأقصى وتهويد للضفة الغربية، ليست كافية لنا كفلسطينيين على اختلاف مشاربنا ومنابتنا الفكرية والسياسية، وعلى كل المستويات القيادية، لكي نقوم بعملية مراجعة شاملة، لكل حصادنا السابق، بإخفاقاته الكثيرة قبل نجاحاته المحدودة، ولكي نجري عملية محاسبة شاملة وعميقة، لماذا نخفق كثيراً وننجح قليلاً..؟ لماذا نضالنا وتضحياتنا، رغم حجمها الكبير والضخم لا تثمر ولا تنجز ولا تستثمر..؟ لماذا "السيزيفية" المتواصلة..؟ ولماذا لا نراكم؟ ونمارس سياسة حرث "الجمال" التي تلبد ما حرثته من أرض، ولماذا لا نجد أي قيادة سلطة وأحزاب وفصائل، تصارح شعبها وجماهيرها بالحقيقة، وتقول لهم هنا أخفقنا وهنا أخطأنا وهنا هزمنا، بدل الإنشاء والشعارات التي تدغدغ العواطف وتوظف التاريخ والإرث لخدمة الحزب والفصيل والقيادة، والحديث عن الإنتصارات والإنجازات الكبيرة وصحة الموقف والبرنامج والنهج والخيار.
إذا استمرينا على هذا المنوال وهذه الرتابة والنمطية والتكلس، وعدم القدرة على قراءة علمية ودقيقة وعميقة للمتغيرات والتطورات المحيطة بنا، وكيفية توظيفها لخدمة معاركنا السياسية والجماهيرية والوطنية، فحتماً سنصل إلى كارثة جدية وحقيقة لحقوقنا ومشروعنا الوطني، فإذا كنا غير قادرين على أن نستوعب بعضنا البعض في إطار يوحد كل جهودنا وطاقاتنا، فكيف لنا ان نتحدث عن ديمقراطية وحرية وإستعادة حقوق؟ والكل منا من صغيرنا لكبيرنا يرى في نفسه بأنه مالك الحقيقة، وهو من يناضل ويدفع الثمن من أجل فلسطين، ولذلك يجب أن تسجل "طابو" على اسمه، أو أنه هو وكيل الله على أرضه يمنح صكوك الغفران والإيمان والتكفير ومفاتيح الجنة والنار، ولا يؤمن بالآخر أو يعترف به، لا في الوجود أو القيادة.
حصاد عام مضى، فيه الكثير الكثير من الأخطاء والإخفاقات، وقليل من الإنجازات، وفي الكثير من الدول العالم تتغير القيادات أو تستقيل، لكونها أخفقت أو إرتكبت أخطاءً في قضايا ليست جوهرية أو استراتيجية، ولا تواصل التشبث بكراسيها معلنة بأنها منزهة عن الخطأ، وهي تواصل تحقيق الإنتصارات "الوهمية" التي يكشفها الواقع. فهل نشهد العام القادم ثورة شعبية داخلية تقودها الجماهير نحو التغير.. أم ستستمر هذه الجماهير وعلى رأي شعارنا العربي الكبير "تهتف وهي منومة"؟!