ثمة ما يشي بأن قواعد الاشتباك على الجبهات الشمالية، آخذة في التغير والتبدل... إسرائيل ترفع منسوب «تورطها» في الأزمة السورية من جهة،
وهي من جهة ثانية، تعيد النظر من جانب واحد، في قواعد الاشتباك مع حزب الله على الأرض اللبنانية، تلك القواعد التي جرى التقيد بها (نسبياً) طوال سنوات ثمان أعقبت حرب تموز عام 2006.
على الجبهة السورية، لم تكن زيارة نتنياهو لجرحى المعارضة السورية المسلحة، تعبيراً عن القلق والتضامن الإنسانيين مع «المجاهدين»، نتنياهو توجه إلى مستشفيات الجبهة، ليعلن وقوفه إلى جانب هؤلاء في مواجهة النظام السوري وحلفائه... وفي خلفية المشهد، سعي نتنياهو والمؤسسة الإسرائيلية، لإعادة العمل بنظرية «الجدار الطيب» و«الدويلة العازلة/الواقية» على امتداد الحدود الشمالية لدولة الاحتلال... أما في المعلومات، فثمة أحاديث ذات صدقية، عن تنسيق ميداني ودعم لوجستي وأحياناً تسليحي، تقدمه إسرائيل للمليشيات المسلحة في درعا والقنيطرة، وثمة أنباء مؤكدة عن اتصالات رفيعة المستوى مع قادة المحاور وأمراء الحرب في هذا المجال.
على الجبهة اللبنانية، بدا أن استهداف موقع مباشر لحزب الله، على الأرض اللبنانية، وليس داخل سوريا كما جرت العادة، إيذان بتغيير في المقاربة الإسرائيلية، وفي أحسن الأحوال بدت الغارة المزدوجة بمثابة «جس نبض» لحزب الله، فإن ابتلعها ولاذ بالصمت المريب، تكرر العدوان وتتالت الغارات، وإن كشف عنها وتوعد بالرد عليها، ساد الانتظار والترقب لمعرفة طبيعة الرد وزمانه ومكانه ونوعيته... وهنا تنفتح المسألة على احتمالين: أن يكتفي حزب الله بالقول أنه يحتفظ بحقه في الرد في الزمان والمكان والكيفية التي تروق له وتنسجم مع حساباته، ومن ثم إغلاق الحساب حتى أجل غير مسمى، أو أن يقوم الحزب بتوجيه ضربة مضادة، ما يفتح الباب رحباً على احتمالات مواجهة إقليمية جديدة.
إسرائيل، بخلاف السوريين واللبنانيين، أكثر من فهم وأدرك نظرية «تلازم المسارين» السوري واللبناني، والغارة الأخيرة على أهداف في السلسلة الجبلية الشرقية التي تفصل سوريا عن لبنان، حملت رسالة مزدوجة للحليفين... وليس من المستبعد أن تزداد وتيرة التدخل الإسرائيلي المباشر في ثنايا ودهاليز الأزمة السورية، الأمر الذي سيضع تل أبيب حكماً في مواجهة مكشوفة مع حزب الله و«المحور» بأكمله.
ومن يراقب الخطاب السياسي/ الأمني الإسرائيلي في آخر فصوله وصفحاته، يلحظ أن تل أبيب بدأت بتوسيع خطوطها الحمراء... لم يعد نقل السلاح الكاسر للتوازن إلى حزب الله أو المنظمات الإرهابية هو الخط الأحمر الوحيد، بعد أن زال خطر السلاح الكيماوي أو هو في طريقه إلى ذلك... إسرائيل بدأت تفكر جدياً بدويلة عميلة في جنوب سوريا، بصرف النظر عن اسمها أو الهوية المذهبية للقوى الراعية لها والمشرفة على حفظ أمنها... إسرائيل بدأت بوضع خطٍ أحمر جديد، يمنع على حزب الله السيطرة على السلسلة الشرقية بين سوريا ولبنان، وفي هذا السياق اندرجت الغارة الأخيرة وجرى تبريرها، ومن يدري فقد تتسع الدوائر والخطوط الحمراء، لتشمل مناطق وأهداف ومصالح أخرى، لم يكشف عنها جميعها حتى الآن.
ثمة قراءات مختلفة للتطور الخطير في الموقف والسلوك الإسرائيليين: واحدة تقول أن إسرائيل أيقنت بأن قوى المعارضة المسلحة السورية، لن تكون قادرة وحدها على حسم الموقف وتأمين جنوب سوريا على أقل تقدير، بدلالة الضربة الموجعة التي وجهها الجيش السوري للمسلحين أمس أول، فقررت أن تفعل ذلك بنفسها طالما أن سيد البيت الأبيض ما زال على تردده... وثمة من يقول: بأن إسرائيل تريد فتح جبهة لبنان على نطاق واسع، مستغلة تشتت قوات حزب الله على جبهات عدة، وانشغال إيران بمعالجة ملفها النووي، وغرق روسيا في مستنقع أوكرانيا، ووفقاً لهذه المقاربة، ليس معروفاً بعد، ما إذا كانت إسرائيل بصدد شنّ هجوم استراتيجي على حزب الله، أم أنها ما زالت في مرحلة «جس النبض» أو «الاستطلاع بالنار» كما يقول العسكريون.
على أية حال، فإن دخول إسرائيل المباشر على جبهات القتال الشمالية، سواء كان تكتيكياً أم استراتيجياً، لا يعني أن المواجهة ستكون قد حسمت... بل أن هذا التطور، قد يعيد خلط كافة أوراق اللعبة في الإقليم، من دون أي ضمان بأن نتائج الحرب الإسرائيلية في 2014 ستكون أفضل من حربي 1982 و2006، أو الحربين الأمريكيتين على العراق وأفغانستان، فليست المشكلة في اقتحام إسرائيل ميادين القتال، المشكلة التي ستواجهها صبيحة اليوم التالي، هي كيف ستخرج إسرائيل من هذه «الورطة»؟... أليس هذا هو الدرس الأول والأهم، المستخلص من مختلف المغامرات العسكرية التي وقعت في السنوات العشر أو العشرين الأخيرة؟