أين ستصل واشنطن في مراجعاتها لسياساتها الشرق أوسطية، وإعادة تقييم “وساطتها” في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية؟... وأين ستصل إسرائيل في ترجمتها لسيل التهديد وطوفان الوعيد للسلطة الفلسطينية، إن هي واصلت سيرها نحو استكمال عضوية فلسطين في المنظمات الدولية؟
في السعي للإجابة على السؤال الأول، نقول: لن تترك الإدارة الأمريكية ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي نهباً للفراغ، فهذا الفراغ سيفتح الباب رحباً أمام جولات جديدة من المواجهات، التي لن تظل سلمية بالضرورة... وفي محيط إقليمي متفجر، فإن واشنطن تكون كمن يصب الزيت على نار الأزمات المشتعلة في المنطقة إن هي انسحبت منها، وهذا ليس خياراً.
والسياسة كما المجتمع والطبيعة، تكره الفراغ، وثمة قوى تتأهب لملء أي فراغ ناجم عن انسحاب أو اندحار أية قوة مهيمنة، دولية كانت أم إقليمية... والطامعون لملء الفراغ الأمريكي، لم يعودوا محصورين في “نادي اللاعبين الدوليين الكبار”، هناك لاعبون إقليميون يبحثون أيضاً عن “مكان تحت الشمس”، بل أن هناك لاعبين “لا دولاتيين” يظهرون ميلاً وقدرة على ملء فراغات الدول والأنظمة والحكومات، فنحن في إقليم تعصف به رياح التغيير، وحركة القوى وحراك الفاعلين، لم يعد ينضبط لقواعد قديمة، بل بات عصياً على التنبؤ والاستشراف.
لهذه الأسباب، ستعيد واشنطن تقييم وتقويم دورها في هذه الأزمة... ستعيد رسم ملامح وخطوط وساطتها بين الطرفين المصطرعين... أغلب الظن، أنها ستهبط للمرة الثانية بسقف تطلعاتها ورهاناتها، المرة الأولى كانت عندما انتقل جون كيري من الحديث عن “حل نهائي” إلى “اتفاقية إطار”... المرة التالية، سينتقل كيري من نظرية حل الأزمة إلى إدارتها.
ومن أجل ضمان النجاح في إدارة الأزمة، وعدم الوصول إلى لحظة إعلان الفشل وطرح السؤال الأخطر: ماذا بعد؟... ستكون مهمة التمديد للمفاوضات مكانة الأولوية الأولى في حساباته وتحركاته... وهو سيسعى لفعل ذلك عبر وسائل وتكتيكات تزاوج ما بين العصا والجزرة... سيعمد إلى تقديم حزمة إجراءات تساعد الفلسطينيين على “هضم” و”ابتلاع” قضية العودة إلى المفاوضات، من دون أن يسمح لعقد الائتلاف اليميني الحاكم في إسرائيل بالانفراط... أغلب الظن، أن رزمة من الخطوات الإجراءات والتسهيلات اللوجستية، مدعومة بدفعة أو دفعات من الأسرى والمعتقلين، هي ما يفكر به كيري... وأغلب الظن، أن مرحلة من الركود ستعقب هذه المهمة، تماماً مثلما كان عليه الحال، قبل الشروع فيها لثمانية أشهر خلت.
أما إسرائيل، فإنها ستعد للألف، وليس للعشرة، قبل أن تتخذ أية خطوات عقابية جدية ضد السلطة الفلسطينية، برغم “جعجعات” تسيبي ليفني واليمين الإسرائيلي ورئيس الحكومة... وسيتعين على إسرائيل التفكير ملياً قبل اتخاذ أية خطوة من شأنها تقويض السلطة وأجهزتها، خصوصاً الأمنية منها... فإسرائيل تميز بين حنقها على الرئيس عباس من جهة، وحاجتها لبقاء السلطة من جهة ثانية، وأية إجراءات عقابية ستتخذها، ستراوح ما بين هذين الحدين، وستأخذ بنظر الاعتبار والحساب، هذين العاملين على حد سواء.
ستضغط تل أبيب على حركة الأفراد والمسؤولين الفلسطينيين، وستضيّق اقتصادياً وأمنياً على الشعب الفلسطيني، وسترد كعادتها، بقبضة حديدة على مختلف أشكال المقاومة الشعبية، لكنها ستنكفئ عند الحد الذي ستؤثر فيها هذه الإجراءات على سلامة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وفاعلية “التنسيق الأمني” بين الجانبين... حصل ذلك مرات عديدة من قبل، وقد يحصل في المستقبل القريب... المرجح أنه سيحصل.
في مطلق الأحوال، لا خيار أمام الفلسطينيين إلا التعامل مع المرحلة القادمة، بوصفها مرحلة مقاومة أساساً، لا مرحلة مفاوضات، مع أنها قد تلحظ اللجوء إلى التفاوض في بعض الأحيان وحول بعض الملفات... وفي هذا السياق، ليس لدى الفلسطينيين ما يخسروه سوى قيودهم وأغلالهم... وإن كانت السلطة هي منجزهم الأهم والأبرز، إلا أنها في الوقت ذاته، وبعد أن سُدّت السبل التفاوضية نحو الدولة والحرية والاستقلال، أصبحت عبئاً على قضيتهم ومشروعهم الوطني... وإن كانت هناك حاجة لحل السلطة، فليأتي القرار من جانب إسرائيل، وبسبب أعمالها الطائشة والعدوانية، وليس بقرار ذاتي فلسطيني.
لن تستطيع إسرائيل، دون أن تقامر بمزيد من العزلة الدولية، والتعاطف الدولي مع الفلسطينيين، إن تتخذ إجراءات لا يستطيع الجانب الفلسطيني احتمالها والعيش معها... بل ربما تكون هذه الانعطافة، مناسبة للتفكير جدياً في بناء اقتصاد مقاوم، وإعادة الاعتبار للمقاومة في وجه الاحتلال.
واشنطن لن تنسحب من دورها في هذا الصراع، وثمة حدود لما يمكن لإسرائيل أن تفعله، والفلسطينيون ليسوا خلواً من البدائل والخيارات، والصراع مفتوح على جيل جديد من المناضلين الفلسطينيين، وعلى مرحلة جديدة من كفاح شعب فلسطين، لقد طُويت صفحة وفُتحت أخرى، وآن أوان الاستعداد لمواجهة الاستحقاقات.