مرةً أخرى يكذب الأميركان حين يؤكدون للعالم أن ما يجري في أوكرانيا ليس نتاج تصادم بين الشرق والغرب، وإنما ذلك متروك للوضع الداخلي في البلاد والانقسامات الحاصلة بين أنصار الرئيس المخلوع يانوكوفيتش وبين المعارضة التي استولت على السلطة.
وزير الخارجية جون كيري أحد الشخصيات المهمة التي أدلت بتصريح على خلفية مستجدات الوضع الأوكراني، قال فيه إن هذه الأخيرة "لم تخضع لصدام بين الشرق والغرب". لكن واشنطن تعطي أولويةً فائقةً للوضع الأوكراني الذي يبدو أنه تغير في الداخل بفعل مفاعيل الغرب وفي مقدمتهم الإدارة الأميركية.
لابد من التأكيد في هذا المقام على أن أوكرانيا تشهد جولة من الصراع الدولي، وهو صراع بين الغرب والشرق، حتى لو رفضت الولايات المتحدة من صحة هذا القول وأرادت سوق تصريحات مستهلكة للإعلام، ذلك أن ما يجري الآن في أوكرانيا يعبر بقوة عن وجود تدخلات خارجية غذت وأخرجت الوضع الداخلي على ما هو عليه الآن.
أوكرانيا تعيش جولة من الصراع، كانت ابتدأتها في الأساس منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي في العام 1991، حيث أن روسيا بعد التفكك لم تكن قادرة على الدخول في مواجهة لإعادة أوكرانيا إلى أحضانها، وانصرفت موسكو في معالجة أوضاعها الداخلية.
البداية كانت في الاستقلال، لأن أوكرانيا بكل مكوناتها خضعت للحقبة السوفيتية، وحين استقلت طالب جزء منها التوجه نحو أوروبا على أمل الاندماج والتنعم بمفاتن العولمة والرأسمالية وتحقيق الشراكة الكاملة التي من شأنها أن تمهد لأوكرانيا ضمن نطاق الاتحاد الأوروبي.
على الصعيد الديمغرافي الذي لا يمكن إغفاله، هناك أقلية روسية في أوكرانيا تتجاوز 23% من مجموع الشعب الأوكراني، أضف إلى ذلك الذين يؤمنون بالعقيدة الروسية ومن يوالون ويناصرون روسيا صعودها وعودتها إلى الساحة الدولية بقوة، مقابل عدد لا بأس به من أوكرانيين يقعون في الغرب من بلادهم وينحازون فكراً وتوجهً نحو أوروبا
أما على الصعيد الجغرافي، فإن أوكرانيا تشكل خاصرة روسيا والحديقة الخلفية لها، الأمر الذي تدركه القيادة الروسية جيداً وتعلم أن وجود أي قاعدة غربية على الأراضي الأوكرانية قد يهدد المصالح الاستراتيجية الروسية بعمق.
إن أهم ما فعلته روسيا هو تمديد بقاء أسطولها العسكري بالبحر الأسود في مدينة سيمفروبل، عاصمة القرم إلى 25 عاماً إضافية، تحتسب بعد العام 2017 موعد انتهاء الاتفاقية بين الطرفين الروسي والأوكراني، وتجد روسيا هذا التواجد الهام جداً ضماناً لها كحائط صد ضد أي أطماع غربية وجودية وعسكرية في أوكرانيا.
غربياً تجري محاولات حثيثة ومستميتة لضم أوكرانيا إلى الجيب الأوروبي، على اعتبار أن دعم الأوكرانيين لجهة ترغيبهم بأوروبا سيجعل من هؤلاء يهرولون نحو الغرب، ما يعني عدم اصطدام غربي- شرقي مباشر، وهذا يؤكد بطبيعة الحال حقيقة أن أوكرانيا ميدان أو الملعب الرئيسي لفريقين مختلفين.
الدخول الأميركي على الخط يأتي انطلاقاً من رغبة واشنطن تأديب روسيا بشكل ناعم وتحجيمها وإعادتها عند حجمها أيام تفكك الاتحاد السوفيتي في تسعينيات القرن الماضي، وأيضاً لرغبة الولايات المتحدة إزاحة المنافسين على الساحة الدولية وتأكيد أنها اللاعب الأساسي في هذا الميدان.
ثم إن لأمريكا أطماع ليس أقلها ضم أوروبا سياسياً تحت إبطها، وتوسيعه لتأكيد الهيمنة التي تطيل من فرص بقائها متربعة على عرش القوة العظمى، لكن لم يعد يخفى أن هناك لاعبين كبار برزوا على الساحة الدولية، في مقدمتهم روسيا والصين والهند، وهم يرغبون في الصعود الدولي لتحقيق مصالحهم.
من الواضح والجلي أن أوكرانيا تشهد صراعاً بين الشرق والغرب، ليس مرده للإضرابات التي شهدتها كييف في شهر تشرين الثاني الماضي، إنما امتداداته أعمق بكثير ابتدأت أساساً بعد استقلال هذا البلد، وتكرست حالته العدائية تحديداً أيام الثورة البرتقالية عام 2004.
إن ما يجري الآن في أوكرانيا من عزل للرئيس المخلوع يانوكوفيتش وإحلال المعارضة محله، واعتبار رئيس البرلمان أوليكسندر تيرتشينوف رئيساً مؤقتاً للبلاد، يؤكد على أن الأزمة الأوكرانية قديمة ومستمرة في ذات الوقت، لأن لا أحد من الأطراف الدولية الداخلة في الصراع، يرغب في ترك أوكرانيا تقرر مصيرها الداخلي.
هي معركة داخلية مفتوحة، استمدت زخمها من الثورة البرتقالية التي لم تعترف آنذاك بالانتخابات الرئاسية التي جلبت يانوكوفيتش إلى السلطة، لما وصفته المعارضة بفساد انتخابي وتزوير في نتائجها، الأمر الذي وقعت فيه البلاد في حالة من الاستقطاب السياسي والشلل المؤسساتي الذي أدى أخيراً وبسبب الثورة إلى وصول يوشينكو إلى سدة الحكم بدلاً من يانوكوفيتش.
ويعود هذا الأخير إلى الواجهة من جديد، في انتخابات العام 2010، مكتسحاً المعارضة ومتمتعاً بدعم قوي من روسيا الناهضة التي سعت لتوفير الأجواء المناسبة من أجل تمكين يانوكوفيتش في السلطة وضمان توجه أوكرانيا شرقاً.
ما يحدث الآن لا يمكن إحالته إلى انتصار جهة على حساب الأخرى، وإن تمكنت المعارضة مدعومة من الأميركان والأوروبيين، من مباغتة يانوكوفيتش الذي توصلت معه قبل خلعه إلى اتفاق لوقف التظاهرات والاستجابة لمطالبها، ومن ثم عزلته بأمر من البرلمان وبعد أن أخذت تأكيدات على تحييد الجيش في عملية الاستقطاب والمنافسة السياسية.
بأي حال من الأحوال لن ترضى روسيا بتاتاً بالسيطرة الغربية على أوكرانيا، ويبدو أن هناك سيناريوهات تلوح في الأفق، أولها أن التنافس سيشتعل بقوة بين النظام الجديد ومعارضة يانوكوفيتش، للعودة إلى المسار الأول، وهذا بدأت ملامحه تلاحظ بعد أن سيطر مسلحون في منطقة القرم المجاورة لروسيا على مبانٍ حكومية ورفعوا العلم الروسي.
هذه الأعمال ترافقت مع مواجهات بين جماعتين محسوبتين كل منهما على روسيا وأوروبا، إلى جانب استنفار الجيش الروسي في المنطقة لتأمين المنشآت هناك، وسط تخوفات حقيقية من وقوع حرب أهلية وتقسيم البلاد إلى شطرين شرقي وغربي، وهذا سيناريو منطقي وجائز بحكم حدة الاستقطاب السياسي الحاد بين مختلف الأطراف.
أما السيناريو الثاني فيتصل باحتمال فتح خط لتسوية الأزمة الأوكرانية بين اللاعبين الكبار، على أن يحصل كل طرف على ما يحقق مصالحه فيها، وبما يضمن تحقيق الاستقرار لهذا البلد، مع ذلك فإن مؤشرات هذا السيناريو غير واضحة بعد.
وعلى كل حال، يبدو من المستبعد جداً أن تتدخل روسيا وتفرض نفسها بقوة على أوكرانيا، وعلى الأرجح أن تظل الأخيرة عالقة بين الشرق والغرب، حتى لو كانت حسمت موقفها مع النظام الذي يحكمها الآن والذي سيحكمها في الانتخابات المقررة في شهر مايو المقبل، فإنها لن تكون أوكرانيا لجهة واحدة.
أخيراً يمكن القول: إن الأزمة الداخلية الأوكرانية التي لم تهدأ منذ حوالي عشرة أعوام، تضعف من المناعة الأوكرانية وتقوض وحدة البلاد التي ينبغي أن تقرر مصيرها بيدها وتأكد على أكرنتها بعيداً عن الأصابع الروسية والغربية، وهذا وحده يضمن سلامة البلاد وأمن العباد.