وزير الخارجية الأمريكي جون كيري يواصل جولاته المكوكية المتكررة بين السلطة الفلسطينية ودولة الإحتلال الإسرائيلي، يبحث عن تسجيل إنجاز للسياسة الأميركية في المنطقة، بعد ان منيت بفشل ذريع في اكثر من منطقة وساحة سوريا ومصر
بشكل خاص، وهو يريد كذلك ان يبني له مجداً شخصياً،على أساس انه حقق نجاحاً غير مسبوق في إطار "حلحلة" وفكفكة حلقات الصراع العربي- الاسرائيلي وفي القلب منه القضية الفلسطينية.
كيري نجح في إعادة السلطة الفلسطينية الى العملية التفاوضية، رغم الكثير من التحفظات الرسمية والشعبية على تلك العودة استناداً الى ان تلك المفاوضات المتواصلة منذ عشرين عاماً، تدور في حلقة مفرغة، ولم تحقق أية إنجازات جدية لصالح الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بل كانت تلك المفاوضات تستغل من قبل الجانب الإسرائيلي من اجل فرض وقائع وحقائق جديدة على الأرض، وبما يحدث تآكلاً في هيبة وسمعة ومصداقية القيادة الفلسطينية، وإظهارها بمظهر الموافق على ما تقوم به اسرائيل من إجراءات وممارسات قمعية وإحتلالية بحق شعبنا الفلسطيني، ولكن رغم ذلك عادت السلطة الفلسطينية للعملية التفاوضية، نتيجة ضغوط امريكية وعربية خليجية كبيرة مورست عليها، وتهديدات بقطع المساعدات المالية عنها وبما يهدد دورها وبقاءها.
المهم ان السلطة الفلسطينية عادت الى تلك المفاوضات المسقوفة زمنياً بتسعة شهور، على ان يجري خلالها تحقيق اتفاق يؤدي الى إقامة دولة فلسطينية على كامل الأراضي المحتلة عام 1967، وخلال تلك الفترة من المفاوضات تمتنع اسرائيل عن القيام بأية خطوات آحادية الجانب، وبالذات مواصلة الإستيطان من شأنها ان تقوض تلك المفاوضات او تفرغها من مضمونها، ولكن حكومة الإحتلال الحالية القائمة والقادمة على برنامج جوهره ومرتكزه الإستيطان، تدرك جيداً بأن التزامها بمثل هذا الشرط يعني انها ستنتحر سياسياً، فالمجتمع الإسرائيلي يتجه نحو اليمينية والتطرف والمستوى السياسي غير ناضج لحل او مفاوضات توقف الإستيطان.
ولذلك وجدنا ان تلك الحكومة اليمينية لكي تضمن استمرار إئتلافها الحكومي ومواصلة المفاوضات، لجأت الى خلق معادلة جديدة، هي أسرى مقابل الإستيطان، حيث قسمت أسرى ما قبل اوسلو الـ(104) والذين كان يفترض اطلاق سراحهم قبل عشرين عاماً الى اربع دفعات، كل دفعة يفرج عنها، يعلن عن طرح مناقصات ومشاريع لإقامة وبناء مئات الوحدات الإستيطانية في القدس، وهذه المعادلة وهذه الطريقة، وما سربته وسائل الإعلام العبرية، من ان الطرف الفلسطيني عندما عاد الى المفاوضات، كان على علم بأن عدم وقف الإستيطان، ليس شرطاً لمواصلة المفاوضات، هذه الأخبار والتسريبات وضعت السلطة الفلسطينية في موقف محرج امام الشعب الفلسطيني، وزادت النقمة والسخط، ولذلك كادت الجولة التفاوضية التي عقدت في القدس المحتلة يوم الثلاثاء الماضي بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ان تنفجر حيث نفى الطرف الفلسطيني موافقته على ان يستمر الإستيطان مقابل إطلاق سراح اسرى ما قبل اوسلو، وهذا دفع بكيري الى التدخل من اجل ان لا تنفجر المفاوضات وينسحب الطرف الفلسطيني منها، ولذلك لجأ لكي يطمئن الطرف الفلسطيني ويبدد مخاوفه الى ترديد الأسطوانة الأمريكية المشروخة بأن الإستيطان غير شرعي، وبأن إطلاق سراح الأسرى غير مرتبط بمواصلة الإستيطان، وإن كان في باريس خلال لقاءه في اواخر الشهر الماضي مع وزراء الخارجية العرب، قد قال بأن الطرف الفلسطيني يتفهم عدم قدرة نتنياهو على وقف الإتسيطان، حتى لا تسقط حكومته.
كيري يدرك جيداً بأن مساعيه وجهوده وجولاته المكوكية محكوم عليها بالفشل، وأقصى ما يمكن ان ينتزعه من الإسرائيليين، هو اتفاق مرحلي طويل الأمد، يضعنا نحن الفلسطينيين امام اوسلو (2) على نحو اسوأ من اوسلو (1)، فلا اسرائيل حكومة وشعباً قانعة او راغبة او مقتنعة بتقديم تنازلات جدية تلامس الحدود الدنيا من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، دولة فلسطينية على 22 % من مساحة فلسطين التاريخية، ولا الإدارة الأمريكية قادرة على او مستعدة لممارسة ضغوط جدية على اسرائيل من اجل الإنسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ولذلك نجد بأن كيري في جولاته المكوكية، وبعد شعوره المتزايد بالفشل، بدأ بالهروب الى الأمام، وبما يبقي تلك المفاوضات مستمرة، من خلال التركيز على الخيار والجانب الاقتصادي، كخيار من شأنه المساهمة في خلق حالة من الثقة بين الطرفين على حد زعمه، خيار ومشروع طرحه نتنياهو، تحسين شروط وظروف حياة الفلسطينيين الاقتصادية من خلال صندوق دولي تحت الاحتلال، مع شرعنة وتأبيد لهذا الإحتلال.
لذلك يعتمد كيري في "وساطته" دبلوماسية كما يقول الزميل عريب الرنتاوي تعتمد على شراء الوقت وإطلاق الوعود التي لا يضمن إنفاذها... يخاطب كل فريق بما يتصدر قائمة أولوياته ومخاوفه... يغدق على الإسرائيليين وعود حفظ الأمن والتفوق... ويداعب الفلسطينيين القلقين على ما تبقى لهم من قدسهم وضفتهم بأحاديث مقتضبة عن "الاستيطان غير الشرعي" وعرض "حفنة من الدولارات"... يعطي كل فريق ما "يطرب" له من تعهدات، حتى وان تعارض أحدها مع الآخر، فالمهم ان تبقى "العملية"، يستمر الفلسطينيون حول مائدة المفاوضات حتى الربيع القادم. لكي تستطيع الإدارة الأمريكية التفرغ للملفات الهامة الأخرى في المنطقة، فهي قلقة على مصالحها في مصر، وخصوصاً ان القيادة المصرية الجديدة تتجه الى بناء تحالفات وعلاقات استراتيجية مع روسيا، تنوع مصادر تسليح الجيش المصري، ومنح الروس قاعدة بحرية في السويس، وأيضاً المحادثات المتواصلة مع ايران، بعد التقارب مع القيادة الايرانية الجديدة حول ملفها النووي، وما تطلبه طهران من مصالح وامتيازات نفوذ إقليمي وعربي مقابل ذلك، وكذلك الأزمة السورية، وفشل امريكا في اقناع من يدور في فلكها من قوى المعارضة بحضور جنيف (2) في ظل رفض سعودي لذلك، وتوتر في العلاقة معها على خلفية ذلك.
كيري وجولاته المكوكية ستبقى قائمة ومستمرة، وسيعتمد فيها على شراء الوقت والمزيد من الرشاوي الاقتصادية، في محاولة لجعل الطرف الفلسطيني يواصل السير فيها حتى الربيع القادم.