بعد حوالي أسبوعين، من إهدار كرامة الاتحاد الأوروبي، والدولة الألمانية على وجه التحديد، تقوم المستشارة الألمانية انجيلا ميركل بزيارة وصفت بالتاريخية إلى إسرائيل، قبل أسبوعين
. وفي إطار توطيد العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، قام رئيس البرلمان الأوروبي "مارتن شولتس" بزيارة إلى إسرائيل وألقى خطاباً في الكنيست، وعندما حاول تناول جوانب التمييز الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، مشيراً على سبيل المثال ان حصة الإسرائيلي من المياه 70 لتراً، بينما حصة الفلسطيني 17 لتراً فقط، ثارت ثائرة أعضاء اليمين في الكنيست وصرخوا "هذا كذب" وانسحبوا بقيادة رئيس حزب البيت اليهودي "نفتالي بينت" بعد توجيه السباب والشتائم للسيد شولتس، في حين كانت ردود رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أكثر سخرية وازدراء من رئيس البرلمان الأوروبي.
يقال إن اليهود عموماً ليسوا على علاقة طيبة مع الألمان، فهم يعتبرون اللغة الألمانية "لغة كريهة"، بل إنهم يزعمون أن واجهة سيارة "بي ام دبليو" الألمانية، تشبه إلى حد كبير شارب هتلر المعروف (!) وأكثر من ذلك، فإن اليهود في معظمهم يضعون كبار الموسيقيين الألمان الكلاسيكيين على قائمة حقدهم الدفين، خاصة الموسيقار ريتشارد فاغنر، وتمنع مقطوعاته الموسيقية الكلاسيكية من أن تعزف في إسرائيل، كما يقاطع اليهود الحفلات الموسيقية التي يتم عزف موسيقاه في أي قاعة استماع في العالم.. لكن للسياسة شأناً آخر وهذا ما يفسر تلك الزيارة التاريخية التي قامت بها ميركل إلى الدولة العبرية مؤخراً.
المهم في هذه الزيارة، هو توقيتها الدقيق، ليس لتأنيب إسرائيل على إهدار كرامة ألمانيا في الكنيست قبل أسبوعين، ولكن لتوجيه كل مقدرات الدعم للدولة العبرية (!) وقبل أن تصل ميركل إلى وجهتها في إسرائيل، أعلنت برلين أن سفراء المانيا سيقومون مقام قنصليات وسفارات اسرائيل، حينما لم يكن هناك تمثيل إسرائيلي في أي دولة من دول العالم، كما أن المانيا ستمنح كل اسرائيلي يريد العمل أو الإقامة في إسرائيل ترخيصاً لمدة عام، وهكذا بدلاً من أن تقوم إسرائيل، بعد إهدارها كرامة المانيا بالاعتذار، تقوم ميركل بهذه الزيارة التاريخية لإبداء المزيد من حسن نواياها لدى الدولة العظمى إسرائيل، وتصطحب معها 16 وزيراً، ولكي تقوم بالتوقيع مع الجانب الإسرائيلي على عدة اتفاقيات امنية وقضائية واقتصادية، وربما تستعجل تسليم غواصات ذرية تم الاتفاق عليها إلى إسرائيل!! وخلافاً لمعظم زوار إسرائيل من قادة العالم، فإن ميركل لن تلتقي بالرئيس أبو مازن في رام الله!
قد يعتبر البعض أن هذه الزيارة تاريخية، ليس فقط لما أسلفنا، بل لأن هذه الزيارة ربما تفسر بتراجع ألماني عن المواقف الذي اتخذها الاتحاد الأوروبي إزاء الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ومع أن ميركل أكدت على دعمها لجهود وزير الخارجية الأميركية جون كيري لإحلال السلام بين فلسطين وإسرائيل، إلاّ أن حديثها عن أن المقاطعة ضد إسرائيل غير أخلاقية ولا ضرورة لها، وعندما تحدثت عن "المقاطعة" لم تتحدث عن مقاطعة إنتاج المستوطنات أو الجامعات أو البنوك، بل عبارة عامة، ترضي الإسرائيليين، لكنها لا تمثل تحديداً بمقاطعة إنتاج المستوطنات التي تعتبر حتى الآن غير قانونية وتتناقض مع قرارات الأمم المتحدة وعقبة أمام السلام. تعميم مصطلح "المقاطعة" بالطريقة التي أشارت إليها ميركل، يشير إلى رغبتها في الوقوف إلى جانب إسرائيل من دون أن يفهم من كلامها أنها ضد مقاطعة إنتاج المستوطنات، وهو شكل من أشكال التحايل الصباغي الذي تبرره العلاقات الدبلوماسية بعض الأحيان.
وكانت ألمانيا قد اتخذت قبل أسابيع قليلة خطوات جدية فعلاً لمناهضة الاستيطان متجاوزة بذلك حتى ما اتخذه الاتحاد الأوروبي من خطوات بهذا الصدد، كنجاح ألمانيا بالضغط، على إسرائيل كي لا تشمل المستوطنات "اتفاق العلوم" بين الدولتين بعد ضغط ألماني هائل على حكومة نتنياهو التي رضخت في النهاية إلى الشروط الألمانية، كما أن أحد أهم بنوك ألمانيا "دويتش بانك" فرض مقاطعة تجارية على بنك هبوعليم ـ العمال، الذي له فروع عديدة في المناطق الاستيطانية في الضفة الغربية.
ويبدو أن هناك تناقضاً في مجمل هذه السياسات الألمانية إزاء إسرائيل، غير أن البعض قد يذهب إلى أن ميركل ظلت صامدة تجاه موقف ألمانيا من الاستيطان ومن دعم جهود كيري، وتمسكها بحل دولتين لشعبين، خاصة أنها أشارت في اجتماعها مع نتنياهو، الى ان هذا الحل هو الذي يوفر الأمن لإسرائيل.. لكن المانيا تريد أن تلعب دوراً مركزياً في عملية السلام عل الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، على ضوء تراجع قوة التأثير الأميركي على كافة ملفات المنطقة، بإمكان ألمانيا أن تقوم بهذا الدور المركزي من خلال علاقات وطيدة مع إسرائيل، والتمسك بمواقفها إزاء الاستيطان، ولعل هذه الزيارة تعتبر تاريخية من خلال هذا الهدف، أي القبول بألمانيا "كوسيط نزيه" يمكنها من أن تكمل الدور الأميركي أو الحلول محله في لحظة ما، فإذا كانت ألمانيا هي القوة البارزة والمؤثرة في اطار الاتحاد الأوروبي، خاصة في الجانب الاقتصادي، فإن هذا الجانب يجب أن يدعم قدراتها في السياسة الخارجية، والملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، يمكن أن يشكل محور هذا التوجه، خاصة بعدما باتت من الناحية الفعلية "العضو السادس" في مجلس الأمن، من خلال انضمامها إلى "خمسة زائد واحد" كشكل من أشكال الإسهام السياسي على المستوى الدولي.
ستعود ميركل إلى برلين، حاملة أوسمة إسرائيلية رفيعة، وغضباً فلسطينياً متعاظماً، من دون أي تغيير فعلي على الموقف الإسرائيلي الرافض للتراجع عن الاشتراطات التي أعاقت التوصل إلى نهاية سعيدة وعادلة لجهود أميركا "السلمية"!!