تباينت ردود الفعل على العملية الفدائية التي نفذها بالقدس الشهيدان غسان وعدي أبو جمل بين من شجبوها، وأبرزهم دولياً الرئيس أوباما، واعتبروها جريمة بحق مدنيين أبرياء اقترفت في مكان مقدس. فيما استنكرها الرئيس أبو مازن،
وغلب على الصعيد الشعبي في فلسطين المحتلة من النهر إلى البحر وعلى مدى الوطن العربي من رأوها استجابة فاعلة للعدوان الصهيوني ضد المسجد الأقصى والمواطنين المدنيين في القدس وبقية الضفة الغربية المحتلة.
والسؤال والحال كذلك: هل المستوطنون الصهاينة مدنيون أبرياء فعلاً، أم أنهم غير مدنيين ولا أبرياء؟، سؤال في الإجابة عنه نعود لتاريخ التجمع الاستيطاني العنصري الصهيوني وواقعه الراهن، حتى تكون الإجابة مؤسسة على الحقائق الموضوعية في الكيان المحتل لأرض فلسطين والمغتصب لحقوق شعبها المشروعة.
وبالعودة لبداية الكيان المحتل والغاصب، نذكّر أنه في ليلة 15 مايو/أيار 1948، أصدر "مجلس الدولة المؤقت" الإسرائيلي ما سمي "إعلان الاستقلال"، مشهراً بذلك الدولة التي كانت "الوكالة اليهودية" قد أقامت مؤسساتها الدستورية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية زمن الانتداب، بدعم بريطاني ورعاية "عصبة الأمم"، وتمويل الجاليات اليهودية الأمريكية والأوروبية. وكان بن غوريون غداة توليه رئاسة الوزارة الأولى قد شغل منصب وزير الحرب، ولتطوير الجيش وفق المخطط الذي اعتمده "حزب المباي" العمالي قد عهد إلى إيغال يادين برئاسة الأركان العامة، وكلفه بإعادة تنظيم الجيش وصياغة عقيدته العسكرية، فشكل لجنة برئاسته للعمل على المستوى الاستراتيجي، التي انتهت إلى أن مشكلة (إسرائيل) الأساسية تكمن في نقص قواها البشرية قياساً بمحيطها العربي. وعليه توصلت اللجنة إلى الحل التالي:
1- تشكيل نواة نظامية محترفة تضم ضباطاً وصف ضباط وعدداً من المتخصصين كجيش بري، إلى جانب سلاحي الطيران والبحرية وجهاز الاستخبارات من محترفين ومجندين نظاميين.
2- تشكيل قوة عاملة من المجندين لثلاث سنوات للرجال، وسنتين للنساء، يتكون منها معظم الجيش البري. وبحيث تتيح فترة التجنيد الطويلة الوقت اللازم لتدريب القوات العاملة، والتدريب الدوري، وتأمين الحدود في الحالات العادية.
3- الاستدعاء الدوري لضباط وجنود الاحتياط، بعد تسريحهم من الخدمة العاملة، لتدريب سنوي، بين 21-38 يوماً للضباط و14-21 يوماً للجنود، للاحتفاظ بكفاءتهم القتالية واستيعابهم الأسلحة الحديثة، وللاحتفاظ بلياقتهم البدنية. وقد نقل عن يادين قوله: "إن كل مدني هو جندي في إجازة لمدة أحد عشر شهراً في السنة".
وفي سنة 1948 أنشئت منظمة "النحال" (طليعة الشبيبة المقاتلة) شبه العسكرية، وتعتبر إحدى مؤسسات الجيش، وغايتها إعداد كوادر الاستيطان الزراعي من الشباب والفتيات بعد أدائهم الخدمة العسكرية الإلزامية ليتاح لهم الاستيطان في مستعمرات على الحدود.
وكان قد جرى إعلان "الهاغاناة" جيشاً نظامياً باسم "الجيش الإسرائيلي" في 26-5-1948 في محاولة إكساب جيش الغزاة ملمح قوة المقاومة الوطنية المشروعة دولياً. وقد ضم إليه عناصر منظمتي "الأرغون" و"شتيرن" الإرهابيتين بعد التعهد بعدم العمل بالسياسة داخل الجيش.
وواضح مما سبق أن المستوطنين الصهاينة ليسوا مدنيين وإنما هم جنود نظاميون، أو جنود احتياط على تواصل دائم مع الجيش، وقد شارك غالبيتهم العظمى، ولا يزالون، في العدوان المتواصل على الشعب العربي في فلسطين المحتلة ومحيطها القومي.
ويذكر إيلان بابه، أشجع المؤرخين "الإسرائيليين" الجدد وأكثرهم موضوعية، في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين" أن بن غوريون أبلغ "الهيئة الاستشارية الصهيونية" في 7-10-1947 أي قبل صدور قرار التقسيم، بأنه "لا توجد حدود إقليمية للدولة اليهودية" وعليه بدأ التطهير العرقي فور صدور القرار 181 بتقسيم فلسطين بسلسلة هجمات على قرى وأحياء عربية. وفي مساء 10-3-1948 اعتمدت الخطة "دلت" للتطهير العرقي.
وفي مساء ذلك اليوم أرسلت الأوامر لوحدات الهاغاناة للقيام بطرد منهجي للعرب في مناطق واسعة من فلسطين، وأرفقت بوصف مفصّل للأساليب الممكن استخدامها لطرد الناس بالقوة، مثل: إثارة رعب واسع النطاق، وحصار وقصف القرى والمراكز السكنية، وحرق المنازل والأملاك والبضائع، وهدم البيوت والمنشآت، وزرع الألغام وسط الأنقاض لمنع السكان المطرودين من العودة إليها. ولم تتقيد القوات الصهيونية بالقرار الدولي المُنشئ للكيان الصهيوني، إذ تجاوزت حدود التقسيم الاستيلاء على 50% من المنطقة التي خصصت للدولة العربية، كما على منطقة القدس الدولية. وباعتماد "التطهير العرقي" جرى تهجير ما يجاوز 61% من مواطني الأراضي المحتلة، ما يقارب (800) ألف مواطن، واغتصاب منازلهم التي جرى استيطانها.
وحتى أشجار الزيتون لم تسلم من التطهير، إذ اعتبرت أشجاراً عربية تدل على عراقة العمران العربي في فلسطين. ولإكساب الكيان مظهراً أوروبياً غرست بدلاً منها أشجار الصنوبر والسرو. وعلى أنقاض القرى العربية أقيمت المستعمرات الاستيطانية. وما زالت عمليات هدم المنازل وتشريد سكانها واقتلاع أشجار الزيتون والتعسف في الممارسات العنصرية، والتوسع في اغتصاب الأرض واستيطانها سارية المفعول. ما يقطع بأن المستوطنين الصهاينة في الأرض العربية المحتلة ليسوا أبرياء.
ويقيناً إن الرئيس أوباما ومستشاريه لا يجهلون هذه الحقائق، ويعرفون تمام المعرفة بأنه من الحقوق المشروعة دولياً للشعوب المحتلة أرضها، مقاومة المحتلين بكل وسيلة مستطاعة بما في ذلك استخدام السلاح. ولكن الرئيس الأمريكي ملتزم بالاستراتيجية المعتمدة منذ الرئيس ويلسون سنة 1919 باعتبار (إسرائيل) رصيداً أمريكياً يخدم مصالح القوى النافذة في الولايات المتحدة، وملتزم كسابقيه من الرؤساء بالدفاع عنها وحمايتها وتمكينها من أداء وظيفتها في خدمة المصالح الأمريكية في الوطن العربي رغم تجاوزها القوانين والأعراف الدولية.
أما الرئيس محمود عباس، صاحب الرئاسات الثلاث: رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، واللجنة المركزية لحركة فتح، وسلطة حكم الذات في الأراضي المحتلة سنة 1967، فإن كان يجهل حقائق الوضع الصهيوني، وبأن المستوطنين الصهاينة ليسوا مدنيين ولا أبرياء فتلك مصيبة، وإن كان يعرفها ويتجاهلها فالمصيبة أعظم.