لطالما كتبت وقلت في أكثر من مقال ومحاضرة بأن "إسرائيل" ليست بالدولة طبيعية النشأة والدور، وإنه لم يقمها شعب له تواجده الطبيعي والتاريخي في فلسطين، وإنما بوساطة جماعات يهودية متعددة الأصول والأوطان واللغات،
اقتلعت من أرض آبائها وأجدادها وهجرت لفلسطين لا لتقيم "الوطن القومي اليهودي" كما ورد في تصريح بلفور، وزير الخارجية البريطانية، سنة ،1917 وإنما لتشكل الحاجز البشري الغريب والمعادي لشعوب الأمة العربية، ليشكل فاصلاً بين جناحي الوطن العربي وعلى تخوم مصر صاحبة الدور التاريخي في استنهاض العرب وتوحيدهم كي يمنع وحدة العرب وأخذهم بأسباب الحضارة الحديثة، ليتواصل استغلال الوطن العربي موقعاً وموارد وقدرات بشرية . كما خطط لذلك استراتيجيو الاستعمار البريطاني، في أعقاب رد جيش مصر بقيادة إبراهيم باشا من بلاد الشام وتوقيع اتفاقية لندن سنة 1840 التي حصرت نفوذ محمد علي وأسرته ضمن حدود مصر القطرية.
ولأن "إسرائيل" مجرد مشروع استعمار استيطاني توسعي تفردت دون أعضاء الأمم المتحدة بكونها الدولة الوحيدة التي ليس لها دستور يبين حدودها، وينص على حقوق مواطنيها اليهود والعرب . ورغم إنها حين إعلانها في 15/5/1948 كانت قد تجاوزت حدود التقسيم واحتلت معظم منطقة القدس الدولية التي نص عليها، اعترفت بها الإدارة الأمريكية والاتحاد السوفييتي وأغلبية دول المعسكرين . وفي مخالفة صارخة للشروط التي حددتها محكمة العدل الدولية لقبول الدول في عضوية الأمم المتحدة أقر مجلس الأمن قبوله "إسرائيل" في المنظمة الدولية، رغم عدم امتلاكها الشروط المطلوبة، وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 5/11/1949 القرار رقم 273 بقبول "إسرائيل" عضواً كامل العضوية فيها . ولم يكن ذلك إلا لكونها "دولة وظيفية" أريد إكسابها الشرعية الدولية كي يتيسر لصناع قرارها خدمة مصالح الدول الراعية لها في الإقليم العربي.
ورغم تجاوز "إسرائيل" حدود التقسيم واحتلالها ما يقارب 50% مما خصص للدولة العربية، وامتناعها عن تنفيذ القرار 194 بعودة اللاجئين، وقعت معها مصر وسوريا ولبنان والأردن اتفاقيات الهدنة سنة 1949 ما يعني الاعتراف الضمني ب "إسرائيل"، بل والقبول باحتلالها 78% من الأرض العربية في فلسطين . ورغم ذلك توالت الاعتداءات "الإسرائيلية" على حدود الدول العربية الأربع . كما توضح تقارير لجان الهدنة المشتركة أنه في معظم الحالات كان الجيش "الإسرائيلي" هو الذي ينفذ الغارات على حدود هذه الدول، فيما كانت الردود العربية فردية، ومن مواطنين مدنيين . ومع ذلك لم يتخذ مجلس الأمن القرارات المانعة للاعتداءات "الإسرائيلية" المتكررة، ولم يحاول ولو لمرة واحدة تهديدها بفرض عقوبات عليها تحت البند السابع . ولطالما استخدم المندوب الأمريكي في المجلس حق النقض "الفيتو" لمنع أي قرار يرى أنه غير ملائم ل"إسرائيل" رصيد أمريكا الاستراتيجي في المشرق العربي.
ولكون "إسرائيل" أقيمت عنوة في المشرق العربي رغم إرادة شعوبه، ولدورها الوظيفي في خدمة المصالح الأمريكية، خاصة النفطية فيه، توالت الضغوط والمبادرات الأمريكية لإكسابها شرعية الوجود في المنطقة . وحيث بدا مستحيلاً فرض الصلح معها على أساس الأمر الواقع رغم تكرر محاولات ذلك، اتجهت المساعي الأمريكية نحو فرض "التطبيع" مع الكيان الصهيوني، الأمر الذي جوبه برفض واسع لما يعنيه ذلك من اعتراف ب "إسرائيل" وتخل عن الثوابت الوطنية والقومية في الصراع العربي - الصهيوني، حتى في حدودها الدنيا المتمثلة بانسحاب "إسرائيل" لحدود التقسيم، وعودة النقب للدولة الفلسطينية كما جاء في مشروع الوسيط الدولي برنادوت، والتنفيذ الكامل لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لسنة 1948 بعودة اللاجئين واستردادهم لأملاكهم والتعويض عليهم وتمكين الشعب العربي الفلسطيني من تقرير مصيره، وإقامة دولته كاملة السيادة على ترابه الوطني.
وكان "التطبيع" محدوداً، ومكتوماً، ويتم على استحياء حتى أظهره الرئيس السادات بمبادرته بزيارة القدس المحتلة سنة 1977 ثم بتوقيعه اتفاقية كامب ديفيد سنة 1979، وما أبداه وأركان نظامه والسائرون في ركبه من "تطبيع" مغالى به مع كبار القادة الصهاينة . ورغم مكانة مصر وأهمية نظامها الحاكم ظل "التطبيع" الذي أظهره السادات محدود التأثير عربياً للإجماع على رفض اتفاقية الإذعان للإدارة الأمريكية . غير أن إقدام ياسر عرفات، ومحتكري قرار فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية على توقيع اتفاق أوسلو سنة 1993 أعطى "التطبيع" مشروعية رسمية فلسطينية، ما وفر للعديد في مشرق الوطن العربي ومغربه القول "لسنا ملكيين أكثر من الملك" بزعم أن الصراع فلسطيني - "إسرائيلي" . وليس عربياً صهيونياً.
ولتعزز الإدارة الأمريكية ما حققته بتوقيع اتفاقيتي كامب ديفيد وأسلو، تابعت منذ عقد المؤتمر الاقتصادي في الدار البيضاء سنة 1994 عقد مؤتمرات متعددة العناوين، وفي أكثر من موقع عربي وغير عربي، جمعت فيها نخباً سياسية وفكرية واجتماعية عربية وصهيونية، مستهدفة تعميق وتوسيع "التطبيع" على مستوى النخب العربية القائدة.
ومع أنه مضى على إظهار "التطبيع" رسمياً ما يجاوز الخمسة والثلاثين عاماً، إلا أنه لم يحقق أي إنجاز على صعيد الموقف الصهيوني من حقوق شعب فلسطين المشروعة . ما يجعل منطقياً القول بأن "التطبيع" مهما حسنت نوايا "المطبعين" العرب، لا يختلف بالنتائج عن "مفاوضات" فريق أوسلو الفلسطيني، التي وفرت لقادة الكيان مواصلة استيطانهم الأرض العربية المحتلة، خاصة القدس وبقية الضفة الغربية، واستمرار ممارساتهم العنصرية ضد المواطنين في الأرض المحتلة، وزيادة أعداد الأسرى في المعتقلات والسجون . والظهور في الوقت ذاته بمظهر الملتزم بما يسمى "عملية السلام" ما يجعل "التطبيع" مداناً، مثله مثل "المفاوضات" الحافلة بالتنازلات، باعتباره عملية سياسية المستفيد منها الوحيد الكيان الصهيوني.
إلا أن مقاومة التطبيع تبدو على عتبة نقلة نوعية مع بداية إعادة الاعتبار لتجربة عبدالناصر والفكر والعمل القومي العربي، وما شهدته تونس مؤخراً من تصد شجاع لموافقة وزيرة السياحة على زيارة "الإسرائيليين" لمعبد يهودي في جزيرة جربا، مؤشر له دلالته . فضلاً عن أن الزمن العربي لم يسر في مصلحة "التطبيع" وإن اتسع إطاره بقدر ما سار في مصلحة قوى الممانعة والمقاومة عربياً ومصلحة الانكشاف العالمي لطبيعة "إسرائيل" العنصرية.