Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

"حذار.. حذار من إطار كيري"... ممدوح العكر

  بادئ ذي بدء من الضروري أن لا ننسى ولو للحظة واحدة ان الولايات المتحدة وإسرائيل ليستا مجرد حليفتين تربطهما مصالح استراتيجية حيوية وحسب، بل ان أمريكا أيضاً هي الحامي والداعم الأساسي لإسرائيل عسكرياً وأمنياً واقتصادياً ومالياً ودبلوماسياً وحتى ثقافياً (فلنتذكر اليونسكو).

ويكفي ان نطالع توثيق هذه الحقيقة الدامغة في الكتاب الاخير للدكتور رشيد الخالدي وعنوانه "خداع الوسيط". إذ يستعرض د.الخالدي دور الولايات المتحدة في ما يسمى "عملية السلام" على مدى حوالي 35 عاماً امتدت عبر آخر ست إدارات أمريكية. وهي إدارات الرؤساء: ريجان، كارتر، بوش الأب، كلنتون، بوش الإبن، وانتهاءً بأوباما. وكيف ان المواقف الأمريكية كانت تتطابق تماماً مع المواقف الإسرائيلية، حتى بعدما ازدادت هذه المواقف تطرفاً بعد وصول اليمين الإسرائيلي إلى الحكم.

وكما لخص احد أفراد طواقم الإدارات الأمريكية، "وهو أهارون مولر" هذا الدور الأمريكي طوال مداولات عملية السلام بأنه كان باستمرار "دور محامي إسرائيل". وأكثر من ذلك أورد الكتاب وثائق تفاهمات سرية تلتزم من خلالها الإدارات الأمريكية المختلفة بأن لا تتخذ أي موقف يتعلق بالشأن الفلسطيني إلا بعد التنسيق المسبق مع الحكومة الإسرائيلية. وفي الحالات المحدودة التي كادت فيها إدارة أمريكية ما أن تشذ عن هذه التفاهمات سرعان ما كانت تضطر للتراجع، وبشكل مهين، عن تلك المواقف. وآخر أمثلة هذا التراجع المهين كانت تراجع الرئيس أوباما عن مطالبته إسرائيل قبل عامين بتجميد النشاطات الإستيطانية خلال فترة التفاوض المزمع حينها مع الجانب الفلسطيني.

هذه الحقائق لا بد ان تكون ماثلة أمام أعيننا ونحن نحاول فهم السياق الذي تتم فيه كل هذه الجهود الحثيثة التي يبذلها حالياً وزير الخارجية الأمريكي جو ن كيري، لدرجة ان وزير الدفاع الإسرائيلي يعلون وصفه بالمهووس!

فإذا تمعنا في هذا السياق، على ضوء الخلفية الضرورية آنفة الذكر، فما هي عناصر ومكونات هذا السياق؟

- أولاً: يبدو أن هناك قراءة أمريكية استراتيجية تستشعر، عبر مجساتها المختلفة ومراكز أبحاثها المتعددة أن إسرائيل تواجه خطراً حقيقياً بالعزلة الدولية والمقاطعة التي تكتسب زخماً بات من الصعب تجاهله وقد يؤدي إلى نزع الشرعية عنها إذا ما استمرت في تقويض أسس ومقومات حل الدولتين، خاصة من خلال مواصلة النشاطات الإستيطانية وتهويد القدس. علماً ان حل الدولتين المتآكل إلى حد النهاية كان يشكل لإسرائيل الملاذ الوحيد لتثبيت وجودها "كدولة اسرائيل" بمباركة وتأييد المجتمع الدولي. بمعنى ان الإدارة الأمريكية ترى ضرورة إعادة إحياء عملية المفاوضات وطرح شكل ما لحل الدولتين تعطيلاً أو قطعاً لطريق لجوء الفلسطينيين الى خيارات أخرى متاحة بديلاً لمتاهة مفاوضات لا تنتهي وكأنها قدر لا راد له. وكل ذلك إنقاذاً لإسرائيل من نفسها بسبب عمى وقصر نظر حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف والناجم عن غطرسة القوة وعن استلهامات الفكر الصهيوني كمشروع استعمار استيطاني عنصري. علماً ان المواصفات الأمريكية للدولة الفلسطينية، كما بدأت تفاصيلها تتسرب خلال الأسابيع الأخيرة، ليست الا صورة مشوهة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بدولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة حسب المفهوم الفلسطيني بل وحسب مواصفات ومتطلبات القانون الدولي لهذه الدولة.

- ثانياً: كما أن هذه القراءة الأمريكية ترى في ذات الوقت ان الوضع العربي على درجة من الضعف والتفكك يتيح فرصة يجب ألا تفوت للإستفراد بالفلسطينيين لحل القضية الفلسطينية حلاً مناسباً لإسرائيل ان لم يكن مطابقاً تماماً لرؤيتها لهكذا حل. فما جرى ويجري في العراق وسوريا ولبنان، ويراد دفع مصر باتجاهه من شأنه ان يغيب الدور المحوري لهذه الدول بالنسبة للقضية الفلسطينية، ويفتح الباب على مصراعيه لأن يتحول الدور العربي إلى دور ضاغط على الموقف الفلسطيني بدلاً من دور مساند.

- ثالثاً: أما على الصعيد الفلسطيني فيبدو أن هذه القراءة الأمريكية، والتي يتحرك كيري من وحيها، ترى أيضاً أن الفلسطينيين هم الآن في أضعف احوالهم، منهكين بعد ان تقطعت بهم السبل منذ ان دخلوا نفق أوسلو وأضاعوا البوصلة فاختلطت اولوياتهم ما بين حركة تحرر تخلت حتى عن ابسط اشكال المقاومة، وبين بناء دولة "مستقلة" تحت سمع وبصر الاحتلال ومحدداته وتمتد ما بين مستوطنة وأخرى من مستوطناته، في سابقة تاريخية فريدة. وزاد من بلة طينهم انقسام يقصم ظهرهم ولم يعد بالإمكان فهم استمراره الا على اعتبار انه صراع على السلطة. ويزيد من انهاكهم وضع اقتصادي يزداد سوءاً وتدهوراً وأصبح فيه تأمين فاتورة الرواتب شغلهم الشاغل. هذا في الوقت الذي يبرز فيه من بين الثنايا دور لشريحة من قوى مختلفة يتنامى نفوذها على السطح ويلم أطرافها ائتلاف غير مكتوب قائم على حقيقة كونها المستفيد الفلسطيني الوحيد من كل معطيات الأمر الواقع، وتتطلع بشهية مفرطة إلى إغراءات الجانب الإقتصادي من خطة الوزير كيري ذات البلايين الأربعة، حتى لو كان ثمن ذلك تفريطاً بالحقوق الوطنية لشعبها.

- رابعاً: كما يبدو ان القراءة الأمريكية تستخلص من مجمل معطيات هذا المشهد الفلسطيني والعربي استنتاجاً يقودها إلى الإعتقاد بأن القيادة الفلسطينية يمكن ممارسة ضغوط مكثفة عليها، سواء بالتهديد أم بالابتزاز أم بكليهما، للرضوخ أو للتعاطي مع مقترحات كيري لهذه النسخة المشوهة لحل القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، والآخذة في التبلور على شكل اتفاق إطار. وتصل هذه الرؤية الأمريكية مدىً لخصه أحد محللي مركز أبحاث أمريكي بأن القيادة الفلسطينية لا تمتلك القدرة على رفض مقترحات كيري، كما انها في ذات الوقت على درجة من الضعف لا تستطيع معه مقاومة الضغوط الأمريكية غير المسبوقة عليها.

- خامساً: بناءً على كل ما تقدم، وحتى لا تفوت الفرصة السانحة التي يرى الوزير كيري ضرورة عدم تفويتها، نراه يركز جهوده على صياغة إتفاق إطار يحدد أسس ومبادئ حل كافة جوانب القضية الفلسطينية. وعدا عن خطورة محتوى وتفاصيل هذا الإطار المستوحى من كل السياق المذكور آنفاً، فإن خطورته تكمن أيضاً في أنه يراد لهذا الإطار أن يصبح من الآن فصاعداً مرجعيةً جديدةً لأي تعاط أو تفاوض مستقبلي حول القضية الفلسطينية، مرجعيةً بديلةً عن مرجعيات القانون الدولي والشرعية الدولية والحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني. وهذا بغض النظر عن أية تحفظات قد يضعها الجانب الفلسطيني أملاً بالتمسك بالحد الأدنى من مطالبه وحقوقه، وبغض النظر ايضاً عن اية تحفظات تضعها إسرائيل طمعاً في الحصول على الحد الأقصى من مطالبها ومطامعها. فكما تعلمنا تجاربنا المؤلمة، أنه نظراً لأن الأمر يخضع في نهاية المطاف لإملاءات موازين القوى فمن السهل علينا ان نستنتج أياً من تلك التحفظات سيكتب لها ان تترجم على أرض الواقع مستقبلاً.

وعلى نفس القدر من الخطورة فإن مجرد طرح فكرة الإطار سيكون مبرراً وغطاءً لتمديد المفاوضات الحالية بعد انقضاء مدة الشهور التسعة التي كانت محددة لها، وسندخل بالتالي في دوامة جديدة من المواعيد غير المقدسة. هذه المواعيد غير المقدسة تكاد تكون بمثابة شيفرة أحد أهم ركائز المشروع الصهيوني وهو كسب الوقت لفرض الوقائع على الأرض وخاصة بالنسبة لاستيطان الضفة وتهويد القدس.

أما على مستوى محتوى ومضمون هذا الإطار فتكمن خطورتها في أنها ستكون، كما ذكرت، نسخةً مشوهةً لحل الدولتين، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بالدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة حسب المفهوم الفلسطيني ومتطلبات القانون الدولي والشرعية الدولية. فلا سيطرة فلسطينية (ولو بوجود طرف ثالث) على الحدود، ولا على المعابر، ولا على الأجواء، ولا على المياه الإقليمية (إن كان لغزة مكان في هذه الدولة!)، ولا على مصادر المياه والمصادر الطبيعية الأخرى بما فيها البحر الميت، مع تبادل سخي جداً للأراضي يتيح ضم أغلب المستوطنات، ولا ذكر للقدس الشرقية عاصمة محددة للدولة الفلسطينية ولو ضمن صيغة تتيح لشطري القدس البقاء موحدين، ولا حتى مجرد ذكر او أي تعامل مع حق العودة كحق قائم بذاته، ناهيك عن عدم الالتزام بإنهاء الاحتلال بانسحاب مجدول واضح وانما ربط ذلك بالأداء الأمني الفلسطيني الذي لا يعلم الا الله متى يجتاز الفلسطينيون هذا الامتحان (وكأن اكثر من عشرين عاماً من الإختبارات الإسرائيلية المتواصلة لهذا الأداء الفلسطيني لا تكفي حتى ولو بلغ التنسيق الأمني أحادي الجانب معها حدودا مهينة لنا).

فأي معنى وأية قيمة تبقى لهكذا دولة يراد حشرنا فيها. ألا يكفي أن مجرد وصفها، من دون دول الكرة الأرضية، بأنها ستكون دولة "قابلة للحياة" للدلالة الأكيدة على أنها بالكاد قابلة للحياة.

والأخطر من ذلك، وللتغطية على حقيقة هذه النسخة المشوهة للدولة الفلسطينية يلجأ الوزير كيري إلى "حلول خلاقة" وصيغ غامضة توصف زوراً وبهتاناً "بالغموض البناء"، لا لشيئ الا لتمرير المطالب الإسرائيلية وللالتفاف على جوهر الحقوق والمطالب الفلسطينية الأساسية. ولدينا سوابق كثيرة من الأمثلة المريرة والكارثية على هذه "الصيغ الخلاقة" وحيل "الغموض البناء":

- ألم تكن فكرة تبادل الأراضي عبارة عن صيغة خلاقة لضم اغلب المستوطنات وتجاوز حدود 67؟

- أوليس النص في المبادرة العربية على حل قضية اللاجئين وفق القرار 194 حلاً عادلاً و""متفقاً عليه"" عبارة عن صيغة خلاقة تعطي لإسرائيل حق الفيتو على حق العودة وحقوق اللاجئين؟

- أولم يكن ما سمي "بالإعتراف المتبادل" قبيل توقيع اتفاق أوسلو سوى صيغة خلاقة أخرى لتمرير الإعتراف الفلسطيني بحق إسرائيل في "الوجود" وبالتالي بمشروعية المشروع الصهيوني؟ ودون ان يكون هناك أي تبادلية حقيقية؟.

- ثم أوليس البحث الجاري حالياً عن تخريجة ما للمطلب الإسرائيلي بالاعتراف الفلسطيني بيهودية الدولة لن يكون الا غطاء بصيغة التفافية خلاقة أخرى لنسف حق العودة من أساسه من جهة، ومن جهة ثانية لتقويض مكانة وحقوق فلسطينيي عام 48 النابعة من كونهم سكان الأرض الأصليين، وتحويلهم بالتالي الى مجرد مقيمين غير مرغوب بهم في دولة ليست لهم. كما يشكل هذا المطلب من جهة ثالثة إنتزاعاً لإقرار فلسطيني بالرواية الصهيونية حول الحق التاريخي الحصري لليهود في فلسطين، وبالتالي إلغاءً وهزيمةً للرواية الفلسطينية.

ألا يعني كل ذلك اننا في حقيقة الأمر أمام صفقة القرن، بعد مائة عام على وعد بلفور الذي كان صفقة القرن العشرين؟

أمام كل هذا الخطر الداهم من جهود الوزير كيري لبعث الحياة لحل الدولتين بصيغة مشوهة تطيح بالحقوق الوطنية الفلسطينية وتنقذ إسرائيل من نفسها، تصبح مسؤولية وطنية أولى ان نبادر قبل فوات الأوان لكل خطوة من شأنها تعزيز الموقف الفلسطيني بالمزيد من المناعة والصلابة في وجه الضغوط الأمريكية غير المسبوقة، وأن نعمل على كل ما من شأنه شد أزر القيادة الفلسطينية، والحيلولة دون الإستفراد بها تهديداً أو ابتزازاً بقطع المساعدات. وشد الأزر هذا لا ولن يتأتى بالشعارات ولا بالمبايعات. بل بمبادرة مثقفينا وكتاب وصناع الرأي منا إلى فتح حوار مسؤول متواصل وممأسس وصريح مع القيادة لتدارس الوضع الفلسطيني وبلورة الخيارات والبدائل والخطوات الضرورية بأبعادها وتبعاتها المختلفة. فصديقك من صدقك القول، لا من صدقك.

وكذلك بالمبادرة إلى الدعوة لعقد مؤتمر وطني (يضم كافة اطياف المجتمع الفلسطيني) يعمق الحوار الداخلي ويصلب ويوحد جبهتنا الداخلية ويشد الأزر المطلوب. عندها سوف نكتشف مدى القوة الكامنة في قضيتنا وفي آفاق خياراتنا المتاحة. كما سنكتشف أن أحد أهم أسباب ضعفنا إنما يعود إلى حصر واختزال خياراتنا بمفاوضات أصبحت المرجعية الوحيدة لها هي إملاءات موازين القوى وتهديدات راع يفتقد النزاهة ويعترف بأنه محامي الخصم فيها.