أدرك أنه لا فرق بين زنزانته الانفرادية الضيقة المحشورة والمتوحشة ظلاماً وقمعاً، وبين إجراءات الاحتلال البوليسية في القدس العربية المحتلة، من قمع واستيطان وتهويد وعزل وملاحقة، فالهدف هو الإنسان الفلسطيني في الزمان والمكان.
الأسير الشهيد معتز حجازي قضى عشر سنوات من عمره معاقباً في سجون الاحتلال، عاش في أقسام العزل الانفرادي متنقلاً بين زنزانة وأخرى، معزولاً عن نفسه وعن العالم، لم يكن يتكلم مع أحد سوى مع القدس الروح واليقين، مربوطاً من قدميه ويديه، ممنوعاً من الزيارات ومن الكتب ومن رؤية الشمس والهواء، يعيش بين أربعة جدران في زنزانة قذرة، يتعرض للإهانات والضرب على يد السجانين، تحت ذريعة أن القدس تشكل خطراً على "أمن دولة إسرائيل".
تضاعفت أحكام الأسير الشهيد حجازي من ست سنوات إلى أحد عشر سنة ونصف، كما تضاعف الاستيطان والهدم والقمع بحق أبناء القدس ومقدساتها، وكلما تصدى معتز للقمع بكبرياء مقدسي، كلما ازدادت الهجمة أكثر على القدس من اعتقالات واسعة غير مسبوقة، اغتيالات وخطف، هدم وتجريف منازل، وإجراءات ضريبية وفرض غرامات، واقتحامات وحشية للمسجد الأقصى على يد عصابات المستوطنين.
تحولت زنزانة معتز إلى ثكنة عسكرية، قوات النحشون والمسادا و السجناء اليهود الجنائيين، ينكلون به ويحاولون شطب هويته المقدسية وروحه الوطنية والإنسانية، وتحولت القدس إلى ثكنة عسكرية وحشودات من الجنود والقناصة والمناطيد والحاخاميين الحاقدين والشعارات العنصرية والفاشية، يتصدون لأولاد القدس الرائعين، وللمصلين المرابطين، ولصوت الآذان وقرع الأجراس وانتفاضة الصلوات الخمس وهي تحرس أبواب السماء.
كلما أراد معتز أن يطل من نافذة زنزانته الموصدة على الزمن الحقيقي للحياة، وأن يسافر مع أحلامه واغنياته إلى فضاء القدس، إلى عائلته وأصدقائه وخطواته الأولى، أن يشتم رائحة البلدة القديمة بأنبيائها وأسواقها وعطرها وبخورها وأحيائها وشهدائها، كلما زاد الحصار على القدس أكثر، جدران واستيطان وعزل وتهجير للسكان واغتيال للغة العربية والهوية الوطنية وتشويه للمكان.
انفجرت القدس في شرايينه، لم يتحمل معتز ما يرى في بلده العاصمة، رفض أن يصير عبداً تحت عصا المستوطنين المتطرفين وسلطة الاحتلال، رفض أن يعود إلى الوراء، إلى حيث كان في السجن تمارس بحقه أشد العقوبات لسحقه إنسانياً ووطنياً، ورفض أن تسجن القدس في أقفاص" دولة إسرائيل"، وأن تتحول إلى عمود من الملح، وتحت هيمنة الأساطير والمزامير والمزيفين للتاريخ.
انفجرت القدس في شرايينه رافضاً أن تلبس القدس بزة الاحتلال العسكرية، وجّه التحية للاسرى الباقين في السجون، والتحية للطيور على هذه الأرض، التحية للهواء والماء، للشمس والظل، للشجر والغيم، للمطر والينابيع، لأمه وأبيه، للطين والحجر، التحية للتراب، فالبحر المتوسط لا يحتضر قال معتز، والدولة الفلسطينية بدون القدس ليست أكثر من زنزانة عزل بعيدة بائسة.
انفجرت القدس في شرايين معتز حجازي، لأنه لم يحتمل أن يخطف الطفل محمد أبو خضير ويحرق حياً، لم يحتمل الجثث للأطفال والنساء وسرقة الصلاة، ولم يحتمل مخططات قتل آيات الله وقص أجنحة الصلاة من قبل دولة دينية عنصرية تحولت بكل مؤسساتها إلى هيئة أركان عسكرية، تريد إعدام القدس من المشروع الوطني الفلسطيني المتصاعد والمتوهج عالمياً، لم يحتمل ازدحام غرف التحقيق بالمسكوبية بأطفال القدس وأمهاتهم وآبائهم، ولم يحتمل الصمت المريب، وذبح الأفق السياسي للحلم الوطني الفلسطيني.
فتح معتز باب زنزانته الحديدي، ومشى في شوارع القدس يبحث عن بخوره ومسكه وملائكته في دمه الذي سال غزيراً غزيراً فوق الأرض وفوق السماء، بين السحابات الممطرات، زيتاً وزيتوناً ومطراً توحد المسافات في أعناق الضوء والرعد والبرق، كأنها دعوة أو هتاف أو بشرى للعالمين.
انظروا إلى القدس في فلكها الجديد
في بؤرة جمرها
هنا معتز حجازي
إنسان الوعد
قولوا له: شكراً
يسيل على جسد الأرض
فكوا رموزه
واسألوا أنفسكم
بأي جسد ستكملون أجسادكم بعد الآن؟
رئيس هيئة شؤون الاسرى والمحررين