البسمة لم تغادر باسل اليازوري، صديقي، إلى الأبد، كانت دائماً هناك، فلم يكن من السهل أن تعرف إذا كان باسل سعيداً أو حزيناً، فبسمته لا تفارق وجهه الأبيض المشدود الذي لا يشبه وجهاً آخر. كبرنا على ما يكبر عليه المراهقون،
واجتزنا مجموعة من الاختبارات السهلة والصعبة معاً، وفي الثانوية التي تشهد عادة أوج التهور، كنا هناك، نشارك ونتشارك في ما يحدث من مظاهرات وتعليق أعلام وكتابة على الجدران وتنظيم إضرابات في المدرسة لأنهم فصلوا مدرساً ينتمي إلى الجهاد الإسلامي لأنه كان يقول لنا ماذا تعني فلسطين ولماذا محمود درويش مهم إلى هذه الدرجة. باسل كان دائماً يثير دهشتي، لدرجة أننا في صباح أحد الأيام توجهنا إلى المدرسة وكنت قد قمت وإياه بتعليق بعض الأعلام وكتابة بعض الشعارات على جدران المدرسة في الليلة السابقة، ومن شدة الدهشة التي بدت على وجهه حين رأى الشعارات والأعلام، كاد يقنعني أنا شخصياً أنه لم يكن له علاقة بها، لقد كان أمنياً بدرجة مذهلة.
أسسنا بعدها فرقة للدبكة الشعبية اسمها فرقة الجنوب للفنون الشعبية، كان أكثر من يهتم بها وبمساعدتها، وكان أخوه الصغير [أحمد الذي سيستشهد بنفس الطريقة تقريباً بعد عام من استشهاد باسل] هو [اللويح] الخاص بالفرقة، وكان باسل دائماً يقول لي: وقتيش بدكو تعملو إشي من تأليفكو؟؟
ننتهي من الثانوية، ويتوجه هو إلى يوغوسلافيا عام 1984 للدراسة، وفي أول زيارة له عائداً إلى غزة، يعتقل لمدة عام بتهمة الانتماء إلى الجبهة الشعبية، قمنا بزيارته بعد خروجه باسم الفرقة، وأذكر يومها أنني أهديته ثلاثة كتب موقعة باسم فرقة الجنوب كانت، حياتي، طفولتي، جامعياتي لمكسيم غوركي، وقد شارف على البكاء حين رآها وقال إنها أجمل هدية تلقاها في حياته.
يدرس باسل بعد ذلك في الجامعة الإسلامية لأنه منع من السفر بعد اعتقاله، وابتسامته الساحرة ما زالت ترافقه، وأتخرج أنا من معهد البوليتكنك في الخليل ونتقابل يوماً في الشارع الذي يؤدي إلى بيته، ويعانقني، ويسألني قبل أن يسأل عن أي شيء آخر: عملتو إشي للفرقة من تأليفكو والا لسة؟
في شباط من عام 1987 استلمت عملاً في بلدية رفح، ومقر البلدية قريب من بلوك O حيث يسكن باسل مجاوراً للحدود مع مصر، فكان يأتي لزيارتي في البلدية أحياناً حيث كنت أعمل مراقباً للأبنية ورساماً معمارياً، ولم يكن أحد من العاملين في البلدية يراه إلا ويسأل: ماذا يحمل هذا الشاب في ملامحه، فبمجرد أن نراه لا نستطيع أن نرفع أعيننا عنه!!!
بدأت الانتفاضة في نهاية 1987، فابتدع باسل طريقة لا تجارى في التصدي للجيش، كانت طريقة رائعة، تضمن إصابة الجيش دون تعرضه هو شخصياً للأذى، كان يستعمل [الشُّدِّيْدِةْ] أو ما يعرف بـ[النُّقِّيْفِةْ] يصنعها من قضيب من الحديد، مع حبل مطاطي من حبال الأطباء التي يربطونها على الوريد عند سحب الدم، وفي وسط الحبل هناك رقعة من الجلد لوضع المقذوف فيها، وبالمناسبة، لم يكن باسل يستخدم الحجارة، كانت جيبه دائماً معبأة بالكرات الزجاجية التي تعرف شعبياً باسم [الجلول] أو [البنانير]، وبأم عيني رأيته مرة يصيب من بعيد جندياً في جبهته، والجندي يدور دورتين حول نفسه ويسقط على الأرض، فيما لعلع صوت الرصاص كمطر فجائي بعد هذه الحادثة، لقد عرفه الجنود بعد أن رأوه بأعينهم.
في الخامس من كانون الثاني 1988، اعتقلني الجيش، ونقلوني إلى معسكر أنصار في غزة، ومنه إلى معتقل عتليت جوار مدينة حيفا، وفي الزيارة الوحيدة التي سمح لأبي وأختي بزيارتي فيها، كان وجه أختي متجهماً كقطعة سماء في شتاء كثيف، نظرت إليها، ودون أن أسألها، سألتها عيناي، فبكت.
ترصدوه، وأطلقوا رصاصة استقرت في رأسه، أمضى أربعة أيام في غيبوبة، وفي 12 كانون أول 1988، تحرّر من الحياة إلى حياة أخرى، باسل الجميل الذي لا يليق به الموت، باسل صاحب الابتسامة التي ظلت عالقة في الهواء إلى اليوم، لم يعد موجوداً في شوارع رفح، لم يعد يحتل الفراغ الصغير الذي كان يزعج الهواء والوقت.
في السجن الذي كان عبارة عن ملعب مملوء بالخيم ملحق بسجن عسكري يزج فيه الجنود الرافضون للخدمة العسكرية، كانت أسماء عديدة من أسرى حزب الله مكتوبة بالطباشير على جدران الخيام، عدت من الزيارة بغير الوجه الذي ذهبت به، المعتقلون الذين اعتادوا عليَّ ضاحكاً، مغنياً، متحدثاً مازحاً، مواسياً، لم يفهموا الأمر، لم أجب على الأسئلة، تكومتُ على الفِراشِ الذي يغطي قطعاً من الخشب في زاوية الخيمة، شعرت بحجمي يتضاءل إلى حدّ أنني لم أعد مرئياً، كنتُ أكرهُ الجنازات ومراسم الدفن، وما زلتُ إلى اليوم، لكنَّ الخاطرَ الوحيد الذي استولى عليّ لحظتَها، أن أعقدَ صفقةً مع مدير المعتقلْ، مضمونها أن يمدَّ اعتقالي سنةً كاملة مقابل تركي أشاركَ في جنازةِ باسلْ، أن أراه للمرةِ الأخيرة. باسل الذي سألني عصرَ ذات اليوم الذي اعتُقِلتُ فيه: فش حواليك شوية بنانير هان والا هان؟
السجنُ قاسٍ عموماً، ومع أنني سجنتُ أكثر من مرة قبل هذه المرة وبعدها، إلا أنني لا أتذكّرُ مرارةً تشبه المرارةَ التي أحسستُ بها في تلك اللحظة، ولا حتى ما يدانيها، لذا فقد كان أول ما فعلته حين خرجت من السجن، أن ذهبت إلى المقبرة، وتحت شجرة صغيرة هناك، كان يرقد باسل.
يومها فقط، وبعد أن قرأت اسمه على الشاهدة الرخامية، صدقت أنه لم يعد هنا، لكني لم أستطع البكاء أو الكتابة عنه وقتها، فقد ظلَّ باسل مشروعاً مؤجّلاً كحياتِهِ التي تأجَّلَتْ.
بعد عشرين عاما، في عام 2008، كنت أسير بالقرب من سوق الزاوية في غزة، وفجأة، وقفت مصعوقاً كالأبله، جمدني المشهد، باسل، بوجهه الأبيض، بنابه الذي يعلو بقية أسنانه، ابتسامته، خجله الذي يشبه الصباح، بعد ثوانٍ ناداني صوت من ورائي: مالك يا خالد؟
إلتفتُّ لأرى أخت باسل الصغرى، حاولت تجميع المشهد في رأسي، وقلت لها: مالي؟ باسل أمامي وتسألين مالي؟ فضحكت بمرارة، وقالت، وهذا أيضاً باسل، لقد أسمته باسل تيمناً بأخيها الشهيد، الولد كان في التاسعة عشرة، أنجبته أمه بعد استشهاد باسل بعام، لم أر في حياتي ولداً يشبه خاله إلى هذا الحد، وقتها فقط بكيت، ولكن بشكل مختلف، بعد عشرين عاماً، توجهت إلى البيت وفي رأسي نص كامل بعنوان [يدان من خجل] أهديته إلى باسل اليازوري منذ عشرين سنة، اكتشفت أن باسل كان وما زال يسكنني، وأنه لا يكفي أن يموت الأصدقاء الحميمون كي يختفوا من داخلنا.
وما زال باسل يلح عليَّ كجوعٍ صباحي!