عندما وصلت حكومة الوفاق الوطني إلى قطاع غزة وعقدت اجتماعاتها هناك، ولأول مرة منذ سنوات طويلة وقاسية ودامية، انتاب الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات مشاعر مختلفة ومختلطة من الحب والفرح، والثقة التامة بأن عهد الانقسام قد ولى وإلى الأبد ولن يعود.
حكومة الوفاق التي وطأت أرض غزة، بعد عدوان وحشي استمر 51 يوماً، وقد فاضت بالدم والشهداء والجرحى والدمار والآلام والتشرد، أعادت الروح من جديد إلى أهلنا المحاصرين هناك، وأكدت أن إرادة الوحدة التي عنوانها التضحيات الجسيمة أقوى من آلة الموت الاحتلالية.
وكان مروان البرغوثي من داخل سجنه، ومن خلف خمس مؤبدات قاسيات، قد قال لنا من خلال وثيقة الوفاق الوطني: أن الوحدة الوطنية هي قانون الانتصار، وهي نافذة الحرية المشرعة على كل الجهات، عندما يجد السجان نفسه محاصراً بين أبوابه ومفاتيحه وعقليته المغلقة، يسقط أمام سطوة التلاحم والنهار.
زيارة حكومة الوفاق الوطني إلى غزة وسط استقبال جماهيري حاشد، لقي صدى كبيراً وعميقاً لدى الأسرى والأسيرات القابعين في سجون الاحتلال، تطلعوا إلى أجسامهم وقد تكاملت، وإلى ودمهم وقد توحد، وإلى جوعهم وقد انفجر غضباً ضد أعداء الحرية الذين راهنوا على تجزئة الوطن هوية وفكراً، وارتاحوا إلى حين داخل دباباتهم ومستوطناتهم وطائراتهم القاتلة.
منذ الانقسام الفلسطيني تغيرت أحوال المعتقلين، ومارست حكومة "إسرائيل" وجهاز الاستخبارات في مصلحة السجون الإسرائيلية سياسة التلاعب الممنهج على وتر الاختلاف والانقسام في الصف الفلسطيني، ووجدوا في ذلك فرصة للانقضاض على وحدة وقوة الحركة الأسيرة وحقوق المعتقلين السياسية والمعيشية.
عاش الأسرى سنوات صعبة ومخيفة في ظل الانقسام، حيث فرقت إدارة السجون الإسرائيلية بين التنظيمات سواء في أماكن الاحتجاز والغرف والأقسام، أو من خلال المعاملة، واستخدمت الانقسام أداة لممارسة العقوبات والضغوطات على الأسرى.
وأستطيع أن أقول أن الانقسام ساهم في عدم وجود موقف واحد ورؤية واحدة للتنظيمات في السجون، لهذا شهدنا سلوكيات انفرادية على المستوى الفردي والجماعي بين الأسرى، بسبب غياب التضامن الوحدوي والقيادة الموحدة في السجون.
لقد تحوّل الانقسام إلى عبء ثقيل على حياة الأسرى وقدراتهم على مواجهة حكومة "إسرائيل" وقوانينها العنصرية وإجراءاتها التعسفية، وأدى ذلك إلى تردي الحياة الداخلية للأسرى، وإمعان سلطات السجون في إهمال حقوق الأسرى الصحية والإنسانية وإعادة الأوضاع إلى الوراء.
والآن في ظل خطوات ملموسة وجدية نحو تعزيز الوحدة الوطنية لشعبنا الفلسطيني، فإن مراهنات الاحتلال على انقسام الأسرى قد سقطت، وقد استعادوا عافيتهم، ووجدوا أن الطريق إلى الحرية وإلى القدس وإلى الدولة المستقلة، لن يكون إلا تحت سارية وعلم الوحدة الوطنية.
في رسالتهم الأخيرة التي أشادوا فيها بزيارة حكومة الوفاق إلى غزة، وجدت في أقوال الأسرى ذاكرة صاحية للمخاطر القادمة، وذاكرة حية تدعوا إلى مزيد من التلاحم السياسي والوطني في مواجهة أطول احتلال في التاريخ المعاصر، ووجدت في رسالتهم حراساً على دمنا وأحلامنا المشروعة، يضعون أعمارهم وتضحياتهم وسنوات غيابهم على مذبح وحدة الشعب الفلسطيني، قائلين: من أجل أبنائكم وبناتكم خلف قضبان السجون البغيضة، حررونا بوحدتكم، واتركوا أرواحنا تحلق في سماء اليقين، نحن قادرون على الانتصار.
تتزامن خطوات المصالحة الفلسطينية مع المعركة السياسية والقانونية التي بدأتها القيادة الفلسطينية نحو وضع حدّ زمني لإنهاء الاحتلال، ونحو دعوة الأطراف السامية الموقعة على اتفاقيات جنيف للانعقاد، وإلزام "إسرائيل" بتطبيق أحكام هذه الاتفاقيات على الأراضي المحتلة وعلى الأسرى.
ويتطلع الأسرى من خلف سنوات أعمارهم الطويلة إلى القادم القريب، يحملون أجسادهم المثقلة بالأمراض وقهر السجن، يضعون ثقتهم بإرادة شعبهم وتصميمه على نيل الحرية والكرامة، ويراهنون على الوعي القانوني والأخلاقي للمجتمع الدولي، والذي بدأ يصحو على ما تقوم به دولة إسرائيل من ممارسات تجعل العدالة الإنسانية وثقافة حقوق الإنسان في خطر شديد.
ولازال كريم يونس أقدم الاسرى في السجون، ومنذ 32 عاما يرسم لوحته المستقبلية، طريقه إلى أمه العجوز المريضة، وخطواته نحو بيته في قرية عارة، يلقي نفسه على أمواج البحر في حيفا، يغتسل ويطلق أنشودته الإنسانية من هناك:
زهرة في غزة تتنفس
شهداء وغيمات ماطرات
كل الأبواب مفتوحة الآن
الشمس في كل اتجاه
زيت الزيتون يشع في أرواحنا
والقدس تقرأ الآيات
* وزير شؤون الأسرى والمحررين- رام الله