سالت قطرات ندية من جسد القائد، سقت نرجس الأرض المثخنة بالجراح.. ناحت على روحه الطاهرة ورود الطريق.. ومالت أغصان الزيتون تحنو على أرض رواها بدمه..
صراحة.. في ذكراك أيها المعلم تتعثر الكلمات على طرف اللسان.. تكتوي بلهيب سيرتك العطرة.. تخبو خجلة أمام صنديداً من عمالقة الرجال.. تزحف ذاكرته إلى العقول.. لترسم خطاً ثورياً لطبيب شاب.. يحمل بين راحتيه عشبة الحياة.. عائداً بها إلى وطنه، ليكيد بها العدا.. عائداً إلى غزة من مصر العروبة.. يزرعها لتكون نواة تعيد الجهاد إلى أرض الرباط.. صعوداً إلى عاصمة فلسطين.. متنقلاً بين مدن ضفتها.. يسابق زمن الاحتلال..
قيدوه سجيناً ليعاصر سجون البغي والعدوان.. يسطع نوراً بفكر جديد.. يسربه من فتحات الضياء.. يقسم ببعث الحياة من جديد.. لدروب بدأت تنام مبكراً.. بخذلان لصديق أو قريب.. نجحت خطوطه بإشعالها لتقوم ناراً سال لها الحديد..
أغضب أبو السجان في مرقده.. ليبعدوه قسراً خارج الحدود.. هذا هو ظلم اليهود.. حسبوا أنهم كفئوا عليه ناره.. فخاب ظنهم بظهوره من جديد.. ساعياً دائماً لشد الرحال.. يعلو ويعانقه الرجال.. متحدياً منطق الأحوال.. هذا هو الطبيب الشيخ.. هذا هو الدكتور المعلم فتحي الشقاقي.. رجل بألف رجل..
طالته الأيدي الغادرة في غربته.. تعاقدت عليه أعتى شياطين بني صهيون.. أرادت النيل من أبي الرجال.. حسبوا أنهم أزاحوا جبلاً عن طريقهم، ظانين أنهم اصطادوه بشباكهم، لكن روحه سبقتهم إلى أرض فلسطين، تسكن فوق أسوار القدس العتيقة، تحوم وتزغرد بين الأزقة، تشعل أرضاً دنسها المحتلون.. لتمتد على طول التاريخ، تعانق رجالاً سخطوا على المحتل في كل مرحلة، بمعركة يخوضونها، أو هبة يشعلونها.. تعلو بهاماتهم أمام عدوهم.. ببلادنا التي سكنتها أيام صعبة، أغمضت شمس سمائنا.. نفتقد فيها رجاحة عقله.. نفتقد فيها ميزان فكره.. نفتقد فيها صلابة صبره.. نفتقد فيها شجون صرخاته.. نفتقد فيها ذبذبات كلماته..
فتحي الشقاقي لم يكن رجلاً مختبئاً في ظل بيته، بل كان منارة لكل الوطن.. ينظر إليه اللاهثون وراء الحقيقة.. يغوص في فكره الباحثون.. يعلو صوته ويسمعه الجميع.. ليبني لهم مدرسة وطنية.. مزجت بين القلم والبندقية.. جمعت بداخلها خيوط غزل تلونت، لنخب من الوطن الكبير.. كان مركزها منصة لخارطة فلسطين الآية.. امتلأت بها أبيات كلماته.. أزال الغشاوة عن الوجوه وزرع أكنافها في حدقات العيون..
حمل رداءً على كتفيه ضمّ أبناء وطنه تحت جناحيه، نحت بوصلة نحو فلسطين.. كتب عليها.. "هذه الأمة على موعد مع الدم دم يلون الأرض.. دم يلون الأفق.. دم يلون التاريخ.. دم يلون الدم.. ونهر الدم لا يتوقف دفاعاً عن الأمة، دفاعاً عن الحرية دفاعاً عن الكرامة، دفاعاً عن الإنسانية".