أي موت هو هذا الموت.. وأيّ أموات هم شهداء الأرقام، وأي عقاب يقع على الميت، وهل يعتبر عقابا خلو الدفن من أُنْس الطقوس المعتادة...
على الأسئلة تجيب "آيات" بهدوء: المكان مرتكز الجسد، والتربة التي ستحتضن رأسي لا بد وأن تتوفر بها شروط الراحة الأبدية، والراحة كلها وجدتها في استنشاق رائحة الأجداد، لكن الأمر الذي رفضته أن يهبط المكان على جسدي كعقوبة مما استنفر مقاومتي.
لم يرهقني وجود عظامي في مكان غرائبي، فروحي بقيت تطير وتحلق حيث تشاء دون كلل أوملل.
غريب أمر شذوذ خبراء العقوبات في دولة الاحتلال، واعتقادهم بأنهم يوقعون عقوبة بجسدٍ ألِفَ ضعف الموت.
ليس من مكان للموتى سوى المدافن، وكنت في مدفن وانتقلت إلى مدفن آخر، ما يعنيني هو أن روحي قد حافظت على عاداتها الجديدة، وبقيت تغادر جسدي خلسة أثناء نومه، وتعود إليه كما تشاء.
الآن تترك عظامي رقمها وتعود، ولم تكن تأبه يوما للرقم، حيث بقي اسمي لصيقاً بجسدي الذي ألِف الاعتقال.
نعم لقد أُسر جسدي وفني، لكن فضاء روحي بقي واسعاً دون حدود. عظامي اطمأنت إلى المكان وتعرّفت إليه وتعلّقت به، والدليل على ذلك أنني بقيت أغطّ في نوم عميق منذ مغادرة روحي إلى ملكوت الله، وقررت أن لا أقوم بإزعاج عظامي إلا حين قدوم اللحظة المنتظرة، فأقوم بتوضيبها، وأستعد معها للعودة إلى الأهل والأحباب.
ولمزيد من التوضيح لأهل الأرض، روحي لم تكن تنام، فقد بقيت ترطِّب أشرعتها وتحافظ على انفرادها، وفي حال تعبها، كانت تقضي وقتها في هدهدة عِظامها الغافية.
الروح في العالم الآخر، تحتفظ بكامل مواصفاتها وسحرها الأخاذ، وعلى عكس ما تفعل في الحياة يمكنها أن تحب بلا خوف، وتتعلق بأرضها وسمائها وترتبط بهما برباط متين، وتعمل على تضييق المسافة بين السماء والأرض.
وأضافت، لم تكن روحي وحيدة، بل استأنست بالأرواح الطائرة وارتبطت بالعظام الرقمية برباط عجيب.
كانت روحي تتمنى أن تستطيع حمل عظامي وتطير بها حيث تشاء، كما كانت تطير وهي طفلة لم تنبت أجنحتها بعد.
الآن، أنا وروحي وعظامي ورفاتي، بحاجة إلى أجنحة أكثر بأسا وأشد قوة لنعود، فقد أستأنست عظامي التربة ورقمها ويعز عليها ترك ما لها فيها.
وقالت "آيات" في ردِّها على سؤال إلى أين ولمن تعودين وعن الأثر الذي تركه العقاب: عظامي لها أم وأب ما زالا على قيد الحياة، وعظامي أيضا لها أبناء ينتظرونني بفارغ الصبر، سأعود لهم، هم من استهدفهم الاحتلال، وحَكَمَ عليهم باعتقال جسدي.
ظاهريا، كانت العقوبة تبدو وكأنها تقع على جسدي، لكنها واقعيا استهدفت كيّ وعي شعب الشهداء، وردعهم بلدعات الفقد والحرمان.
نحن الشهداء لا نرى أي مكان للموتى سوى القبر، وأينما يكون القبر، يبقى هو القبر.
وتستدرك عظام "آيات" وتقول: نحن الأموات أكثر واقعية من الأحياء، لأننا نتوقع من الاحتلال أن يمارس كل ما هو عنصري وشاذ، ونعرف كيف يستطيع أن يختزل الانسان إلى وضع الصفر والعظم، وكيف يهوى تقصير الأعمار وقصفها.
وتبقى الأسئلة ذات الاجابات الضبابية تتردد على "آيات": أنا كنت نائمة في أرض نملكها وأستقر في جوف ترابنا، ولما عدت كنت أفكر بكم وبطقوسكم ورغباتكم.
لقد أحببت فكرة مواراتي التراب مجددا، لأنه تجديد للحكاية، وأحببت مواصلة مقاومة رغبات الاحتلال، ووقف العقوبة عنكم، ولأني ما زلت أحب الأحلام المدهشة، وأؤيد حملة تبييض مقابر الأرقام، وافقت على موارتي التراب مرة ثانية بشرط عدم مواراة الرواية.
أما عن إغلاق مقابر الأرقام فقد قالت: ربما تغلق للأبد وربما لا. أتذكرون الرقم الأول، أتذكرون كيف لم يتأخر ردّ الشهيد التالي ليحمل الرقم ثانياً، هل تعلمون بأنه من يوم اختراع القبور الرقمية تكررت الحكاية، وتدافع الشهداء لنيل شرف الحصول على وسام مزخرف الأرقام، وكانت الردود القادمة تباعا تتعالى على فهم الاحتلال ومخططاته، وكانت صادمة لوعيه، لكنه لن ينفك عن الردع المسبق واللاحق.
وعن المشاعر التي تعيشها الشهيدة قالت: الإرادة الإلهية حتما قد اختارت لي الأفضل في طقوس الدفنين، فقد بكاني القوم مرتين، واحتفل بي الشعب مرتين، ودفنت في طقسين غرائبيين زاداني عزة وجلالا ورفعة.
سأغلق عيوني اغلاقة كاملة، وأنفض عن رفاتي متلازمة الرقم، وأسترجع برنامجي اليومي، سأعود لمدرستي، وسأطلق ساقي نحو المظاهرات، وأفك قيود حنجرتي وأهتف، وسأتفقد من حملن اسمي تيمنا وعرفانا.. وتختم آيات شهادتها: لا أعرف إلى متى سأبقى في مدفني الجديد، فقد أعود لسابق قبري، فقد بدأ الحنين إلى مدفني الأول يراودني عن نفسي..