وصلت باكراً إلى حاجز «حزما» بناءً على نصيحة صديقتي المقدسية، فما أنْ رميت جسدي سريعاً في سيارتها حتى رمتني بقبعة قائلة، ارتديها وواصلي الثرثرة ولا تلتفتي إليهم. تجاوزنا الجنود المعلّبين ووجوهنا نحو القدس.
على أعتاب المدينة تنبعث ذاكرة القدس من جديد؛ وللمكان ذاكرة الصديق الوفي على العكس من ذاكرة الزمان الغدّار، ففي رائحة كعكها وتوابلها إيحاء حميم، وتتحرك الحواس في لمس الرطوبة على حجارتها، تودُّ لو صغّرتها وخبأتها بين مسام الشَّعر.
فوراً دون إرادة، أعود إلى علاقتي القديمة مع المدينة قبل خطفها، أرى نفسي في رحلة مدرسية أثني جسدي بدلال على درج المسجد، وأخرى، في المتحف مع زميلاتي في الرحلة المدرسية ذاتها يومها أدركت أهمية العصرين الحديدي والحجري، حسب الدليل المتعلم. كانت الحجارة تلمع وتأخذ مكانها المرموق.
وعلى باب العامود، وعلى هدى الحجارة المرتبة بعناية التاريخ، طريق أضيع في زواريبه عن المسجد حيث تحاك المؤامرات تحت أرضيته، هناك في الحرم، أعيد على مسامع صديقتي قصتي مع جدتي ذات الشعر الأحمر، تصاحب روايتي مشاعر مماحكات الطفولة، سأذكر مشوارها الأسبوعي مصطحبة إحدى حفيداتها للقدس، ورغبتي الجامحة في تفضيلي وانفرادي بالزيارة، وإظهار بأني الأكثر فائدة لها، فأتذاكى في إظهار نشاطي وأتفانى في خدمتها، للدرجة التي دفعت إحدى النساء غبط جدتي على «خادمتها الواعية»، فتعمم لقبي الجديد على العائلة بينما أتميز غيظاً.
في الطريق إلى هدفي أتفقد المكان، الشارع العريض الذي كان يسمى «خط الهدنة».
خط على الخارطة وجدار على الأرض، يفصل العاصمة المقسومة ثقافياً بين الشرق والغرب.
ستبدو العاصمة وكأنها مدينتان تلتصقان ببعضهما بالصمغ، لا علاقة مشهدية بينهما، القدس الفلسطينية عن اليسار، والمدينة الجاري تزييف هويتها تتمدد نحو اليمين.
سأمرّ على البوابات القديمة في طريقي نحو جنوب مدينة مفتوحة الأبواب على طريق السماء، نعمة ونقمة، سأتذكر فيلم «مملكة السماء» عن المدينة الأكثر قرباً من السماء، وفيلم «الرقص مع الذئاب» عن قصة الهنود الحمر.
أستمتع بدخولي المظفَّر وأقول في نفسي: أمارس حقي دون تصريح، أسعد بفكرتي بوهم إرادي أفترضه، قبعة غريبة تصرح لي الزيارة، عنوان مميز للتمييز العنصري.
نبضي يصل أذني، خائفة أو منفعلة، انضم إلى الطابور مع أبناء العمومة، سيحلو لي أن أتشاءل وأعتبر أننا متساوون على السطر ذاته، تختلط اللغات الثلاث وتلتحم ومن ثم تعود وتنفصل، أقطع وقتي في فرز الصفوف.
أتحرك، أغبّ مفردات مدينة لا يمكنك معها أن تفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل. اتحرك برؤيا مجنونة لتفاصيل لقاء مرسوم بأحجيات ورموز، سأطمئن على الأسوار وعلى المشربيات؛ سألتزم بمواعيد زيارة المسجد وقبته الذهبية، سأتأمل في خيوطها المقدسة المعلّقة بالفضاء، سأضع غطاء الرأس لأوفر شجاراً مؤكداً مع أحدهم.
فلا أريد إفساد وجدي ولهفتي، وأحدث نفسي بأن حالي قد تغيرت ونالت من عزيمتي سنوات الحصار، وسأسعى ذهاباً وإياباً في الطريق الواصل بين القيامة والأقصى، إنها الصلاة لتجديد النذور؛ وعد أقطعه بتنظيم فعالية، إن عدت وعادوا، في تلك الفسحة التحفة.
أطمئن على الزواريب والمشربيات والبوابات والجداريات والسيراميك، أربّت على ظهور النسوة، الأكثر نضارة وطراوة في باب العامود، وأشتري بعض الزعتر والأعشاب والخضار.
أستكمل طقوس الزيارة، أفقياً وعامودياً، وأحرص في ساعة الصفر أن أكون على سوار المدينة الأخير، وأتسرب من بين الأطواق المحيطة، فالوقت مصنوع من حواجز وممنوعات.
انهم يزوِّرون ملامح وطن بكامله. أواجه نفسي بكل ما نفعله للمدينة، يهتف هاتف في داخلي بحرقة: هل نستحقها! يجيبه صوت: ألا نستحق حقنا! ولكن... هل نؤدي واجبنا تجاه المدينة؟ وهل يصلها منا سوى الكلمات والعواطف؟!