طلب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يوم 7-8-2014 من رئيس اللجنة الدولية للصيب الأحمر "بيتر مارو" العمل لاستعادة جثتي جنديين إسرائيليين تم أسرهما خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وهما الجندي "اورون شاؤول" والضابط "هدار جولدين".
لقد تناسى نتنياهو تماما أنه كان داعماً ومسانداً لقرار اللجنة الوزارية الإسرائيلية التي صادقت يوم 6-7-2011 على مشروع قانون يقضي بسحب صلاحية الرئيس الإسرائيلي فيما يتعلق بمنح العفو للأسرى الفلسطينيين وحصر صلاحية ذلك بالحكومة الإسرائيلية، ويقضي المشروع أيضاً إضفاء صيغة قانونية على إعادة سجن أسرى محررين بموجب مواد سرية حتى لو كانت ذات طابع سياسي.
وقامت حكومة "إسرائيل" منذ بداية تموز 2014 باعتقال 61 أسيراً محرراً في صفقة شاليط وعرضهم أمام المحاكم الإسرائيلية حيث أعيدت الأحكام السابقة على سبعة أسرى منهم، وسبق أن اعتقلت 22 آخرين قبل العدوان على قطاع غزة وقبل أن يصادق على المشروع الإسرائيلي في الكنيست.
الإسرائيليون اعتقدوا أنه لن يقع لهم جنود سواء أحياءً أم أمواتاً في حروبها وعدوانها المتكرر على الشعب الفلسطيني، فعكفوا وبشكل محموم على سن تشريعات وقوانين عديدة خلال الأعوام السابقة عنوانها التشديد على الأسرى وفرض شروط على الافراج عنهم، واستخدامهم عنواناً للانتقام من الشعب الفلسطيني.
لم تتعلم حكومات "إسرائيل" حتى من تجاربها الحربية، فلا يوجد حرب شنتها "إسرائيل" على الشعب الفلسطيني أو على أي دولة عربية منذ بداية الاحتلال إلا وأسفر عنه عمليات تبادل للأسرى.
لقد جرت عشرون عملية تبادل للأسرى منذ عام 1967 بين "إسرائيل" و"م.ت.ف" أو مع فصائل المقاومة العربية، وأفرج عن الآلاف من المعتقلين الفلسطينيين مقابل أسرى إسرائيليين أو عن رفاتهم أو مقابل معلومات عنهم، ولا تزال "إسرائيل" ترصد الملايين من الشواقل لمعرفة مصير الطيار الإسرائيلي "رون آراد" المفقود منذ عام 1982.
طبيعة الافراجات عن أسرى فلسطينيين في عمليات التبادل كانت أكثر زخماً ونوعاً من الإفراجات التي تمت خلال مفاوضات أو اتفاقيات سياسية، حيث تم الافراج عن آلاف الاسرى الذين تعتبرهم إسرائيل (الأيادي الملطخة بالدم) ومن ذوي الأحكام العالية، في حين أخضعت عملية الافراجات عن أسرى وفق اتفاقيات أو تفاهمات سياسية لشروط عنصرية ومقاييس مجحفة ولعمليات ابتزاز، وتمت جميعها تحت شعار بناء الثقة أو حسن النوايا.
الدرس الأول الذي تعلمناه نحن الفلسطينيين من العقل السياسي الإسرائيلي هو أن "إسرائيل" تعطي الأولوية بالإفراج عن أسرى فلسطينيين وبقليل جداً من الشروط في عمليات تبادل ناتجة عن حروب دموية وقاسية أكثر مما تقدمه خلال مفاوضات سلام وبدون حروب ودماء، ولم تستطع تشريعاتها المتعددة في الكنيست الإسرائيلي أن تمنع رئيس وزاراتها من البدء بالتفاوض لأجل مبادلة جنود إسرائيليين بأسرى فلسطينيين.
الدرس الثاني هو أن العقل الإسرائيلي عقلية حربية عسكرتارية تكره السلام العادل وترى في السلام شكلاً من أشكال الحرب، فخلال مفاوضات جادة ورغبات حقيقية للقيادة الفلسطينية والرئيس أبو مازن في بناء سلام متكافئ مع الجانب الإسرائيلي، تنصلت حكومة "إسرائيل" من اتفاق الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى يوم 29-3-2014، فهل ستضطر الآن بعد أن تكبدت خسائر فادحة في حربها الأخيرة على غزة وما تعرضت له من فضائح أخلاقية وعزلة دولية، وارتكابها جرائم حرب وجرائم إبادة إنسانية، أن تفرج عن الاسرى الفلسطينيين؟
"إسرائيل" تقول لنا بشكل غير مباشر: إذا أردتم أيها الفلسطينيون أن تحرروا أسراكم، فلن يكون ذلك إلا من خلال تبادل للأسرى، وهذا يعني خطف إسرائيليين وجنود، وإشعال فتيل الصراع والحرب والذي يدفع ثمنه الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي.
الدرس الثالث هو أن العقل السياسي الإسرائيلي عقل غبي، تسبب في مخاطر ومضار كثيرة للمجتمع الإسرائيلي، لأنه عقل يميني عنصري متطرف، مشبع بالكراهية وروح الانتقام، متعالي متعجرف، أدى إلى جرّ "إسرائيل" إلى مساءلات عديدة، والى المثول أمام لجان تحقيق دولية بسبب ممارستها وأعمالها المخالفة للقانون الدولي الإنساني.
وعلى الرغم من عدم تعاون "إسرائيل" مع لجان التحقيق الدولية، وشنها مؤخراً هجوماً بشعاً على لجنة التحقيق المشكلة من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، كما شنت سابقا هجوما على تقرير جولدستون حول الحرب على غزة عام 2009، فإن المكانة الدولية لإسرائيل قد وصلت إلى الحضيض، وأصبحت تصنف على قائمة الدول العنصرية والفاشية في المنطقة بعد أن هيجت العالم ضدها.
الدرس الرابع الذي تعلمناه من العقل السياسي الإسرائيلي هو استخفافه بحياة جنوده، إذ لا قيمة للإنسان في العقل السياسي الإسرائيلي، فبقدر انه لا قيمة للإنسان الفلسطيني، واعتبار الفلسطيني كائناً غير بشري، واستخدام كل أساليب الموت والإجرام ضده كما حصل في الحرب على غزة، فإن ما يسمى "نظام هنيبعل" يقضي بقتل الجنود الإسرائيليين في حالة وقوعهم بالأسر، تحت شعار جندي قتيل أفضل من جندي مأسور، الموت له الآن، أفضل له من الحياة غداً.
هذا الدرس طبق خلال الحرب الأخيرة على غزة عندما قام الجيش الإسرائيلي بقتل جنوده الذين وقعوا في الأسر على يد المقاومة الفلسطينية في عمليتين عسكريتين في بيت حانون وفي رفح، والذي يدعو للاستغراب هو تفاخر الجيش الإسرائيلي بقتل جنوده بنجاح، وإبادة عائلات فلسطينية بأكملها خلال ذلك.
الدرس الخامس هو الجبن الإسرائيلي الذي تمثل في استسهال الانتقام من الأسرى بالسجون عند أي عقبة في المفاوضات السياسية أو في حالة عمليات مقاومة ضد الاحتلال، فخلال الخمس سنوات الأخيرة وضعت "إسرائيل" الأسرى العزل في سجونها هدفاً سياسياً وقانونياً لها، فجردت عليهم سلسلة من الإجراءات والقوانين التعسفية الخطيرة التي تمس كرامتهم وإنسانيتهم، واستخدمتهم رهائن لتحقيق شروطها السياسية.
الدرس السادس هو التضليل والخداع الإسرائيلي، وهذا ما ظهر في الخطاب السياسي الرسمي الإسرائيلي وبكثافة، حيث صورت "إسرائيل" الأسرى كمجرمين وإرهابيين، وأعطت لنفسها الشرعية لتعذيبهم واعتقالهم تعسفياً، اعتقال الأطفال وإصدار أحكام رادعة وغير قانونية بحقهم، استمرار الاعتقال الإداري واعتقال النواب والنساء، وممارسة الضغط الدولي على السلطة الفلسطينية للكف عن العناية بهم وبعائلاتهم، كل ذلك لتجريد الأسرى من صفتهم القانونية كأسرى حرية ومناضلين شرعيين من حقهم مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
لم تتعلم "إسرائيل" من تجارب الشعوب التي خاضت الصراع كجنوب أفريقيا وأيرلندا وغيرها حيث لم يبدأ السلام الشامل والجدي إلا بالإفراج عن الأسرى.
حكومة "إسرائيل" ستبدأ بمفاوضات لاستعادة رفات جنودها، مثلما بدأت مفاوضات أكثر من عشرين مرة على مدار العقود الماضية، وسوف يفرج عن أسرى فلسطينيين، وسترى "إسرائيل" كما رأت سابقاً الشعب الفلسطيني كيف يستقبلهم بحفاوة وبتقدير عال، كأسرى مناضلين وأبطال.
ويبقى السؤال الذي يجب أن يطرحه الإسرائيليون على أنفسهم إلى متى سيبقى عقلهم مأسوراً في دائرة ضيقة، داخل فوهة مدفع أو قذيفة طائرة قاتلة، ومتى يفتحوا أبواب السجن عن عقلهم، ليتحرروا من كونهم سجناء الاحتلال أيضاً؟
سيأتي يوم ربما يكون متأخراً نسمع فيه ذلك الجندي الإسرائيلي متمنياً أن يكبر الحمام في "وزارة الدفاع الإسرائيلية"، وهو يقول للشاعر المرحوم محمود درويش:
أريد قلباً طيباً، لا حشو بندقية
أريد يوماً مشمساً، لا لحظة انتصار
مجنونة... فاشية
أريد طفلاً باسماً يضحك للنهار
لا قطعة في الآلة الحربية
* وزير شؤون الأسرى والمحررين- رام الله