قلنا في مقالة سابقة بأن جنيف (2) بمثابة «بروفا» وتنفيسه وفشة خلق وتفريغ للأطراف المشاركة والمتفاوضة في المؤتمر، وقد إنتهى جنيف (2) دون حدوث إختراق جدي في أية قضية جوهرية من القضايا المراد طرحها والإتفاق حولها،
ولم يجر الإتفاق على جدول الأعمال أو القبول به، ولكن نقطة إيجابية تحسب له أنه إستطاع أن يجمع الفرقاء المتحاربين والمتخاصمين، تحت سقف واحد، وحتى لو لم يتبادلوا الحديث المباشر، دون أن ينسحب أي منهما، وهذا بحد ذاته يعد إنجازاً، فلعلنا نذكر جميعاً بأن ما يسمى بقوى المعارضة، في بدايات الأزمة وحتى بداية السنة الثالثة، كانت ترفض بشكل قاطع الجلوس مع وفد يمثل النظام، وتردد إسطوانتها المشروخة بأنه نظام دموي وقاتل وديكتاتوري وقمعي، ولكن المتغيرات على الأرض، وما حققه النظام من إنجازات عسكرية، والتحول الواسع والكبير في وجهة النظر والرؤيا من قبل الرأي العام العالمي وحتى العربي والإقليمي من ما يسمى بقوى المعارضة، والتي جسمها الرئيسي مكون من قوى إرهابية تمارس القتل والذبح، وحتى وحشيتها جردتها من كل معاني الإنسانية والبشرية، ولذلك تولدت قناعات عند أغلب الدول الداعمة والحاضنة والمؤيدة لها، بأن خطرها سيتعدى سوريا، وسيشكل خطر عليها هي أيضاً.
واضح أن القوى المشاركة في جنيف (2) أبدت تشدداً سواء لجهة النبرة ولغة الخطاب أو سقف المطالب المرفوعة أو المطروحة، وأيضاً كان واضحاً بأن وفد النظام السوري كان يتحدث بكل ثقة وأريحية ويمسك بناصية المؤتمر وإدارته نحو الهدف الذي جاء من أجله، حيث أنه طرح بأن الهدف من المؤتمر، هو محاربة ومكافحة الإرهاب، وأن مسألة بقاء الرئيس والقيادة السورية، ليست بوارد حساباته، وهي خلف ظهر النظام، فهو لم يسلم بها عندما كان في حالة ضعف فكيف الآن؟؟
تلك النقطة المفصلية التي كان وفد ما يسمى بالمعارضة، غير المالكة لشرعية لا التمثيل ولا القدرة على ترجمة ما يجري الإتفاق عليه على الأرض، تصرّ عليها وتتمسك بها، هي والفريق الدولي والإقليمي والعربي، الداعم لها والمشرف على سياساتها وتوجيهاتها وفارض الشروط والإملاءات عليها، ألا وهي تشكيل هيئة انتقالية بصلاحيات كاملة، ورحيل الأسد وقيادة النظام، ولكن يبدو بأن هذه النقطة سيجري التنازل عنها، والتسليم بها من قبل المعارضة وحلفائها، وستبقى سوريا برئاسة الأسد، وخطاب المعلم واضح في هذا الجانب، وليس بلاغة المعلم وقوة خطابه، هو وفريقه التفاوضي من سيحسمون هذا الخيار بل المعطيات على الأرض هي من تقرر ذلك.
جنيف (3) من الواضح أنه سيشهد أيضاً سلسلة من التغيرات على وفد ما يسمى بقوى المعارضة، فالوفد الذي حضر جنيف (2)، هناك الكثير منهم سينزل من عربات القطار المتجهة إلى جنيف (3) والكثيرون سيصعدون في العربات بدلاً منهم، وبلغة الأخضر الإبراهيمي الموفد الأممي لحل الأزمة السورية، "وفد المعارضة غير مقنع"، وهو عبارة عن شلة ولد وتجار ومنتفعين ومرتزقة، لا يمتلك صلاحية التمثيل للإئتلاف المعارض، حيث أنه يفتقر للشرعية، وكذلك غير مقرر في الميدان، ونقطة أخرى جوهرية وعلى غاية الأهمية في هذا الجانب، بأن إيران التي غابت عن جنيف (2)، لن تغيب عن جنيف (3) وخصوصاً ان لها دور مركزي في حل الأزمة السورية، وهي أقرب حلفاء النظام السوري، وبالتالي عدم دعوتها لجنيف (3) من شأنه أن ينسف الحل السياسي ويفجر المؤتمر، ولا أعتقد بأن روسيا وأمريكا، ستسمحان بحدوث ذلك، فهما على قناعة تامة بأن الحل فقط عن طريق جنيف، وخصوصاً بأن التفاهمات الروسية - الأمريكية مهدت الطريق لحدوث لحلحة وحراك جدي في عدد من الملفات الأخرى مثل الإتفاق والتواصل الأمريكي مع إيران حول ملفها النووي، والإنسحاب الأمريكي من أفغانستان، وقناعة الطرفين بأن إيران تمتلك الحل والتقرير في أكثر من ملف وقضية من ملفات وقضايا المنطقة من أفغانستان وحتى فلسطين والبحرين.
جنيف (3) سيكون الحاسم لجهة الملفات المطروحة، والحسم في تحديد جدول الأعمال، هو رهن بالتطورات على الأرض، وواضح بأن النظام اتبع سياسة القضم التدريجي، سواء على الصعيد السياسي والإعلامي أو على الصعيد العسكري، فهو يسجل إنتصارات على قوى ما يسمى بالمعارضة المهللة والمفككة، والتي تتقاتل على جلد الدب قبل إصطياده، ولكي يعزز النظام من قدرته على الحسم وفرض شروطه، فهو يقترب من خوض معركة القلمون وحلب والرقة، لتصفية آخر معاقل ما يسمى بالمعارضة من داعش والنصرة والجبهة الإسلامية، بعد تفكك وإنهيار ما يسمى بالجيش الحر.
ليس المعقول ان يبدأ جنيف (3) ويستمر المؤتمرون يراوحون في نفس المربع والدوران حول الذات، فلا بد من الحسم في هذا، وهذا غير ممكن بدون حسم على الأرض، فقوى المعارضة لا ترى في جنيف (1) سوى الهيئة الإنتقالية بالصلاحيات الكاملة، وإقصاء الرئيس بشار، وليس رزمة متكاملة من الإجراءات والترتيبات، وهي لا تريد أن تفهم بأن ما كان ممكناً في بداية الأزمة السورية غير ممكن الآن بالمطلق، وعليها أن تعي جيداً بأن جنيف (1)، بنده الأول هو وقف العنف والإرهاب وإطلاق سراح المعتقلين، والجدل البيزنطي يجب أن ينتهي حول جدول الأعمال، وأن تسير المفاوضات في مسارات متوازية... تبدأ بخطوات بناء ثقة، وقف إطلاق النار وإدخال المؤن والمساعدات للمناطق المحاصرة، وتبادل المعتقلين والمختطفين، ومن ثم محاربة الإرهاب، وهذه نقطة على غاية الأهمية، وقدّم النظام ورقة سياسية حول رؤيته للحل، بما يضمن وحدة سوريا الجغرافية، ورفض التدخلات الخارجية في شؤونها الداخلية بشكل مباشر وغير مباشر، وإدانة كل أشكال الإرهاب، وبناء نظام سياسي ديمقراطي قائم على الديمقراطية والتعددية.
ولكن وفد المعارضة، بعد مشاورات مع المعلم روبرت فورد، وباقي الجوقة من الممثلين الداعمين لتلك القوى رفضوا هذه الورقة، وبما يؤشر أن هذه المعارضة، لا يمكن لها أن تحقق أماني طموحات الشعب السوري في حرية أو ديمقراطية، أو أن تصون وحدة أراضيه، أن تحفظ لسوريا كرامتها وموقفها، وحتى لو سلمنا جدلاً بأن النظام السوري وافق على البحث في تشكيلة الهيئة الإنتقالية، مع من سيتفق؟؟، وهل هناك قوى قادرة على التنفيذ وتطبيق ما يتفق عليه؟؟، فما حضر من ديكور لقوى المعارضة، لا تمتلك التأثير في الفعل والميدان.
ولذلك نرى بأن الحسم في جنيف (3) لجدول الأعمال والقضايا المطروحة، سيكون لقعقعة السلاح في الميدان، فالنظام سيعمل جاهداً على أن يحقق حسماً عسكرياً، لكي يمنع تقسيم سوريا وهو يدرك جيداً بأن "جعجعات" أمريكا المصعدة ضده وضد إيران، هي فقط من أجل رفع معنويات فريق قوى المعارضة المفككة والمنقسمة على ذاتها، وليس صحوة أمريكية، كما تروّج بعض مشيخات النفط والغاز العربي.