عانى مخيم تل الزعتر من حصارٍ قاسٍ فرضته قوات اليمين المتطرف في لبنان بداية شهر كانون الثاني/ يناير عام 1976، حيث بقي الحصار مستمراً حتى سقوط المخيم في 22 حزيران، بعد أن شن المحاصرون هجوماً واسع النطاق أطلقوا فيه عشرات آلاف القذائف والصواريخ على مدى 52 يوماً.
خلال تلك الأيام، قُصفت البيوت والمستودعات والملاجئ، بالإضافة إلى مستوصف المخيم الذي كان يؤوي الجرحى والمصابين. شهدت تلك الأيام مغامراتٍ أشبه بالأفلام وألعاب الفيديو الدموية. انقطع الماء عن الناس وتناوب الأهالي على البئر لجلب ما تيسر من الماء لأطفالهم الذي مات بعضهم من الجفاف والعطش. لا ينسى أحد السكان تلك المرأة التي انتظرت منتصف الليل لتحمل جرة صغيرة بيدها نحو موقع البئر، أنزلت جرتها داخله وإذ برصاصة قناصٍ أصابتها بكتفها، فسحبت ما استطاعت ملؤه وركضت مسرعة إلى أولادها الذين كانوا يختبئون في مكان قريب. أوصلت لهم الماء الذي امترج بقطرات من دمائها، ثم هوت على الأرض.
كان هناك دكان تمرٍ في المخيم، قام الشبان بكسر القفل وتوزيع أكياس التمر على الناس. في الأيام الأولى للحرب، استعمل الأهالي التمر كمكوّن أساسي لكل شيء. من كان لديه القليل من الزيت، أخذ يضع حبات التمر في الزيت الحامي ليصبح طعمه كالبقلاوة. ومن كان يستحلي شرب الشاي، يوم لم يعد هناك شاي، كان يغلي التمر بالماء ويشربه. ولكن سرعان ما نفدت الكميات المحدودة ولم يعد هناك سوى القليل من الطحين لدى فرنٍ تابع للأشبال. بعض الناس كانوا يحظون برغيف واحد لعائلتهم، وبعضهم لم يحظَ بشيء.
انخرط جميع السكان بمساعدة الفدائيين الذين أقاموا محاور للدفاع عن المخيم، منهم من ساعد في جلب الماء من البئر إلى المسلحين، ومنهم من كان يحضر قطع القماش التي احتاجها الممرضون لربط إصابات المقاومين. حتى أن الأولاد جاؤوا للمساعدة، فأخذوا يقومون بقص الشمع المتبقي إلى قطعٍ صغيرة حتى لا يتم استهلاك الكمية المحدودة دفعةً واحدة. كما قام أحد الفتية الأذكياء بجمع «قناني» الزجاج من المنازل، التي لم تُقصف بعد، وإحضارها إلى المستوصف ليتم استعمالها من قبل الطبيب كمصل للجرحى.
سقطت تلة المير (التلة التي تطل على المخيم، فمن نجح باحتلالها، أصبح المخيم مكشوفاً أمامه) مرات عدة بيد المرتزقة وجرت استعادتها من قبل المقاومين في كل مرة. لكن في اليوم الثاني والخمسين للحرب، سقطت التلة للأبد واستشهد من كان يحرسها، كما استشهد كثير من الفدائيين الذين حموا المخيم بسلاحهم وعيونهم وأرواحهم، كالبطل «صاعق» و«الوحش» و«صقر الزعتر».
كان ذلك، آخر يومٍ في تل الزعتر. يومها دخل الهمجيون إلى المخيم بسلاحهم، قتلوا الرجال والأولاد من دون تمييز، وأخذوا ينادون أسماءً عديدة منها: فاديا س. فاديا التي كانت ممرضة تعمل في مستوصف الهلال الأحمر، وكانت ابنة مقاتلٍ شرس يعرف باسم «أبو علي س.»، وأخت لثلاثة أو أربعة شبان كانوا يقاتلون على محورٍ سُمي باسمهم لشجاعتهم.
جميع من تجمع في ساحة النافعة يومها، سمعوهم ينادون اسم فاديا، وحين لم تظهر ولم يستطيعوا الإمساك بأخوتها، عثروا على أبيها «أبو علي». هكذا، قاموا بربطه بين سيارتين، ثم تحركت كل سيارةٍ باتجاهٍ معاكس، وحدث ما شهده أهالي المخيم!
فاديا كانت هناك في الساحة، لم يتعرفوا عليها، لكن سكان المخيم استطاعوا أن يميزوها، إلا أن أحداً لم يقل شيئاً.
كانت لمّاحة جداً، مسحت طين الأرض على وجهها حتى أصبح أسوداً، ووضعت قطعة قماشٍ فوق رأسها ولفتها ككبار السن، ثم أحنت ظهرها لتوحي بأنها عجوز، وأمسكت طفلاً بين يديها وعبرت بين النساء إلى المكان الذي سمحوا فيه للناس بركوب الشاحنات لإخلاء المخيم.
حتى الذين كان لهم عمر بعد ليخرجوا على قيد الحياة، لم يغادروا بطريقة طبيعية، بل عانوا لحظاتٍ لم يدركوا من خلالها إن كانت الأخيرة قبل الرحيل أو أنها ستكتب لهم حياةً جديدة في مخيماتٍ أخرى. فإحدى الفتيات كانت تبلغ من العمر إحدى عشرة سنة، كانت تضع أقراطاً ذهبية حين اقترب أحد المسلحين وأمرها أن تنزعها وتعطيه إياها، فأجابته خائفة بأنها لا تستطيع، فرد قائلاً: «شو رأيك بقصلك دينيكي وباخدهم؟» ومنهم من ظنّ أنه قد نجا، وهمّ بعبور الشارع حتى أصابته رصاصة قناصٍ أحب أن يتسلى بأرواح الناس قبل انتهاء آخر يوم في الحرب.
لا ينسى أهل تل الزعتر الموجودون حالياً في مخيم برج البراجنة وشاتيلا ومخيمات البقاع والشمال وغيرها من المناطق اللبنانية، حياتهم داخل ما يواظبون على تسميته «مخيم الصمود». كما أنهم يواصلون نقل الذاكرة الشفهية إلى أولادهم وأحفادهم. وقاموا بتأسيس «رابطة أهالي تل الزعتر» التي تجمعهم ببعضهم بعضاً في جميع أنحاء البلاد التي لهم وجود فيها العربية منها والأجنبية.
هكذا، يواصلون اللقاء ويتشاركون الصور المتبقية من ذكرياتهم هناك، بحلوها ومرّها، فهي كل ما تبقى لهم ليثبتوا أن تلك الأرض ولو لم تكن لهم إلا أنها لا شك كانت يوماً بيتهم.
***
تأسس مخيم تل الزعتر عام 1949 شرق مدينة بيروت وسكنه حوالى خمسون ألف فلسطيني بعد أن خرجوا إبان النكبة الفلسطينية عام 1948. عاشوا فيه بين إخوانهم اللبنانيين في منطقة الدكوانة وكان سكانه يعملون في معامل المنطقة. شهد المخيم حصاراً خانقاً بداية عام 1976 ثم تحوّل إلى ساحة معارك في منتصف العام، راح ضحيته ما يزيد عن الألفين شهيد منهم المئات من النساء والأطفال. هدمت الجرافات المخيم بالكامل ومحي أثره عن المدينة منذ تلك الحرب.