لأكثر من مرة، وبدون طائل يأمر بنيامين نتنياهو وزراءه بالرد على تصريحات وزير الخارجية الأميركية جون كيري، الذي تعرض لإهانات واتهامات إسرائيلية.
كيري بطبيعة الحال بريء تماماً من الاتهامات الإسرائيلية التي وصفته بالانحياز لصالح الفلسطينيين، وبأن خطته تخفي تهديداً وجودياً لإسرائيل، كما يدعي زعماء "البيت اليهودي"، الشريك الثاني في الائتلاف الحكومي.
لا يدرك اليمين الإسرائيلي المتطرف، بأن الفارق بينهم وبين حليفهم الأميركي يكمن في اجتهاد كل منهما بشأن افضل السبل لضمان وجود واستمرار وتفوق إسرائيل ولكنهم، أيضاً، ربما يراهنون على محدودية قدرة الإدارة الأميركية على ممارسة ضغط فعّال على إسرائيل.
خلال الفترة الأولى من ولاية الرئيس باراك أوباما، وجهت إسرائيل الرسمية العديد من الإهانات لرموز الإدارة الأميركية، دون أن تتلقى رداً، بل ان الإدارة الأميركية اضطرت لمسايرة إسرائيل، والتراجع عن مواقفها إزاء الاستيطان وإزاء مسؤولية إسرائيل عن إفشال مهمة السيناتور جورج ميتشيل، وكان واضحاً أن أوباما فضل الصمت، وعدم اللجوء إلى الرد، طمعاً في تأييد اليهود الأميركيين له في الانتخابات الرئاسية.
تستطيع الإدارة الأميركية، أن تعاقب إسرائيل بالرغم مما تملكه من تأثير عبر اللوبي اليهودي، على السياسة الأميركية، لكن هذه المسألة مرتبطة برؤية الولايات المتحدة لمصالحها، خصوصاً وأن النسبة الأكبر من يهود الولايات المتحدة صوتوا لصالح أوباما، ما يعني أن مصلحة الولايات المتحدة، لا تتطلب تصعيد المواجهة مع إسرائيل التي تشكل ذخراً استراتيجياً، للاستراتيجيات والمصالح الأميركية.
الكل يتذكر، كيف أرغمت الولايات المتحدة رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق اسحق شامير، على حضور مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، ولم يكن للولايات المتحدة، أن تفعل سوى التلويح بوقف ضمانات القروض ليس أكثر، ولأن يبلغ وزير الخارجية آنذاك جيمس بيكر بلهجة جافة حلفاءه الإسرائيليين، بأنهم يعرفون أرقام هواتف الخارجية الأميركية، حين يكونون جاهزين لقبول العرض الأميركي.
اليوم يكرر جون كيري ما فعله زميله بيكر، حين قال خلال منتدى الأمن والدفاع الذي انعقد في ميونيخ بداية هذا الشهر "انه إذا فشلت المفاوضات مع الفلسطينيين سيتبين أن ازدهار وأمن إسرائيل ليسا سوى وهم مؤقت، ذلك أن حملة نزع الشرعية عن إسرائيل والمقاطعة الدولية ستزداد وستواجه إسرائيل أخطاراً أكبر".
تحذير كيري، قد ينطوي على شعور أميركي يمتنعون عن التصريح به، وهو أن إسرائيل هي التي تشكل العقبة الأساسية أمام إمكانية النجاح في تحقيق التسوية، وأن عليها أن تتحمل المسؤولية إزاء ذلك، لكن على الفلسطينيين أن لا يفهموا بأي حال أن أميركا تحولت أو قد تتحول عن انحيازها الكامل لصالح إسرائيل.
تصريح كيري لا يعني أن الولايات المتحدة، يمكن أن تنتقل من موقع الرافض للخيار الفلسطيني بالتوجه إلى الأمم المتحدة، وإنما يعني موضوعياً، أن فشل المفاوضات سيحرر الفلسطينيين، الذين يحظون رغم الرفض الأميركي بتأييد غالبية دول العالم، وأن الولايات المتحدة ستكون في موقع ضعيف، إن هي واصلت الدفاع عن السياسات الإسرائيلية.
تصريح كيري ينطوي، أيضاً، على اعتراف بأن إسرائيل تعاني من عزلة دولية، لكن فشل المفاوضات سيدفعها أكثر نحو عزلة خانقة، ويعرضها إلى أخطار كبيرة، وقد يؤدي إلى نزع الشرعية عنها.
الإسرائيليون، الذين تعميهم عنجهيتهم، وتطرفهم، وأطماعهم التوسعية، تعجلوا في الرد باستخفاف على تصريحات كيري، وهم في الأساس لم يفهموا أو أنهم لا يريدون أن يفهموا بأن القرار الأوروبي بشأن مقاطعة بضائع المستوطنات، وامتناع أكبر بنكين في شمال أوروبا عن التعامل مع الاستثمارات العاملة في المستوطنات، إنما يشكل ضغطاً بالوكالة، وانه إشارة إلى المزيد من الضغوط التي تريدها وترضى عنها الولايات المتحدة الأميركية.
"البيت اليهودي" برئاسة المستوطن نفتالي بينيت، وصف مساعي كيري على أنها بيع أوهام، أما بينيت نفسه فقال إنه كان يتوقع من أكبر صديق لإسرائيل أن تقف في مواجهة موجة المقاطعة لا أن تكون بوقاً لها.
وزير الدفاع موشي يعالون هاجم كيري، ودعاه إلى التخلي عن مهمة الوساطة لأنه لا يمكن أن يعلم الإسرائيليين شيئاً عن النزاع مع الفلسطينيين على حد قوله، أما وزير الشؤون الاستراتيجية يوفال شتاينتس فقد اعتبر تصريحات كيري سيئة ولا تطاق، وقال "لن يكون ممكناً أن يفرضوا على إسرائيل تسوية بتوجيه المسدس إلى رأسها".
أما كبير وزعيم المتطرفين بنيامين نتنياهو فقال إن الضغط على إسرائيل لن يثمر، ولن يدفعه نحو المساومة على المصالح الحيوية الإسرائيلية وفي المقدمة أمنها". ردود الفعل الإسرائيلية الغاضبة على تحذير وزير الخارجية الأميركية، يبين، على نحو واضح، ان إسرائيل ليست ابداً في وارد البحث عن تسوية معقولة ولو بالحد الأدنى مع الفلسطينيين، وانها محكومة لأطماعها الإقليمية. فإذا كانت أفكار كيري حتى الآن، لا تلبي الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، وتنطوي على مخاطر حقيقية تجاه تلك الحقوق، وتشكل انحيازاً واضحاً لإسرائيل، فأي المبادرات يمكن أن تصنع سلاماً؟
لقد ذهب الرئيس محمود عباس، بالمرونة، إلى حدود، غير مقبولة، بشأن الفترة الزمنية التي يقبلها الفلسطينيون لاستكمال الانسحاب الإسرائيلي، وإخلاء المستوطنات. لكن هذه المرونة، أيضاً، تسببت في موجة من الجنون لدى صنّاع السياسة الإسرائيلية، لأنها تكشف للقاصي والداني حقيقة الأطماع الإسرائيلية.
الردود الإسرائيلية على تصريحات كيري استثارت المؤرخ اليهودي آفي شلايم الذي وصف الصلف الإسرائيلي في وجه الولايات المتحدة بأنه لا أخلاقي. هنا نخاطب الفلسطينيين بأن عليهم أن يتوقفوا عن التشكيك ببعضهم البعض، وأن يتوقفوا عن إطلاق التهم جزافاً وبلا طائل، وأن يواصل الرافضون للمفاوضات الإعراب عن مواقفهم بشكل سياسي.
قد ينجح جون كيري في إقناع أو إرغام الطرفين على الموافقة على اتفاقية إطار الغرض منها منح المفاوضات فرصة أخرى، ولكن النتيجة معروفة سلفاً طال الزمان أم قصر. المهم أن تؤدي نهاية التسعة أشهر إلى تحرير الإرادة الفلسطينية، باتجاه تفعيل كل أوراقها بما في ذلك التوجه إلى الأمم المتحدة، ذلك أن إسرائيل متحررة كل الوقت من كل القيود، وتواصل حربها الشاملة على الفلسطينيين.
لا يجوز مكافأة إسرائيل مرة أخرى على تطرفها وعنجهيتها، عبر السماح باستئناف المفاوضات، في ظل استمرار الاستيطان، والتهويد، فيما يستمر تكبيل أيادي الفلسطينيين عن القيام بما كان يتوجب عليهم القيام به منذ ما قبل استئناف المفاوضات الحالية وفي مقدمة ما كان ينبغي القيام به، المصالحة، ومواصلة السعي نحو الأمم المتحدة.