لا انكر اني اخاف واحزن بسرعة ولا استطيع منع دموعي من الانهمار، وزمان كنت أرى الشهداء مباشرة وأعاين جثامينهم وليس من خلال التلفزيون وصور بعضهم أشلاء حتى الآن في مخيلتي، والآن لا أستطيع مشاهدة صور الشهداء الأطفال وغير الأطفال.
وعندما شاهدت منازل اصدقائي مدمرة في حي الشجاعية لم اجرؤ على الدخول لما تبقى منها خاصة اشجار الزيتون المعمرة التي اجتثتها وقصت بعضها صواريخ القتل والدمار. وكنت طوال فترة الحرب قلق على أولادي وأهلي وأصدقائي وكل الناس. وكنت لا أجرؤ على الاتصال في أي منهم للاطمئنان عليهم، كنت أعرف اخبارهم عندما ألتقيهم أو أرى أي منهم على الفيسبوك.
أمس أول ايام التهدئة، وفي رفح مخيم الشابورة حيث ولدت وتربيت وقبل الوصول والذكريات حاضرة في رأسي، الاقارب والاصدقاء والجيران وصورهم وصور ابنائهم وبناتهم الأحياء والشهداء من عرفت منهم، ومن لا اعرف، لكني عرفت اسمائهم. اختلطت مشاعر الحزن بالفرح، الحزن على الشهداء والدمار والخراب، وفرح مكبوت على ما تبقى من الاحياء وعلى سلامة الاهل والأقارب والأصدقاء والجيران والناس الذين اعرفهم او لا اعرفهم.
حزن مقيم، الحزن والعيون تبحث عن الشهداء والذاكرة تعود الى صورهم ووجوههم البريئة، الصغار والكبار من عرفتهم شخصياً ومن عرفت من آبائهم وأمهاتهم.
تقفز اسماء الشهداء امامك فجأة، ايمن ابن عبد الرؤوف عثروا على جثته في المستشفى وتم دفنه، ووالد زياد المسعف نقل جثة ابنه من دون ان يعرف انه ابنه، وبعد ان وضعه في ثلاجة الموتى قالوا له انه زياد فعاد والقى نظرة الوداع عليه ونقله الى المقبرة لدفنه. يوسف ابن جلال استشهد، ويوسف ابن جابر ايضاً استشهد اثناء عمله في الاسعاف.
اخبروني كيف استشهد ابراهيم، الرجل الطيب وبناته الثمانية وابنه الوحيد، في تلك الليلة البنات وابنه وأمهم باتوا في بيت جدهم الذي يبعد عن بيتهم متر واحد فقط، وبقي ابراهيم في البيت هو وصهره الذي نام في الغرفة ولم يصب بأذى وإبراهيم نام في ساحة بيت المخيم فاستشهد، وعثرنا عليه بعد ساعة مدفون تحت التراب ولم نستطع انقاذ حياته.
بسام اصيب واستشهدت زوجته أروى وبناته الثلاثة ابتسام الذي سماها على اسم أخته، وضحى صديقة مريم ابنة أخي، وعلا الصغيرة حبيبة امها اروى التي ربما لم تنم تلك الليلة من البكاء والحزن على عمتها سهيله التي استشهدت هي وزوجها احمد أولادهما الثلاثة في حي الصبره بمدينة غزة قبل ثلاثة ساعات من استشهادها، أروى تلك المرأة التي أنجبت 9 من الاولاد والبنات، ووجها البريء وعندما تراها تشعر انها ما زالت بنت مراهقة و لم تنجب كل هذا العدد من الاولاد والبنات، ولم تسمع لها صوت.
وفي بيت عزاء أبناء الاستاذ فتحي الذي استشهد من ابناؤه ثلاثة، فتحي اصيب بيده ووجه وهو الان بخير، ولا يخفي حزنه على أولاده الثلاثة، ابراهيم واحمد ومحمد، اصروا على النوم في ساحة البيت تحت المروحة فاستهدوا معاً، وحرقته ووجع القلب و المه وحزنه عليهم، ابراهيم 12 عاماً، الذكي والمتفوق في دراسته كوالده، النشيط كان يعمل كل شيء يذهب للسوق ويشتري الخضروات وحاجات البيت.
في المخيم وفي قطاع غزة لم يستطيعوا طباعة صور للشهداء، صورهم محفوظة في الذاكرة فهي حية، اسماء الشهداء والشهيدات من ابناء وبنات قريتي الاصلية برير ومن جيراننا في حي الشابورة برفح ومن استطعت ذكر او حفظ اسماؤهم وحكاياتهم كلهم قضوا ظلماً وهم نيام في بيوتهم وعقدة الانتقام والثأر من دولة القتل والإرهاب وارتكاب مجزرة رفح لم وان تستطع كي وعينا وكسر إرادتنا. المجد والخلود للشهداء فهم الذين ينيروا لنا الطريق لفلسطين.
* باحث وكاتب فلسطيني مقيم في غزة