مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لطوفان الأقصى الذي دمّر أسطورة "الجيش الذي لا يهزم"، وجد الكيان الصهيوني نفسه مضطراً للعدوان على لبنان، وهو يعتقد أن ذلك سيعوّضه الهزيمة التي مني بها في غزة والضفة الغربية على الرغم من خطط الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني بدعم الدول الإمبريالية وأنظمة العمالة في العالمين العربي والإسلامي.
وهي الأنظمة نفسها التي تتآمر على لبنان الآن، فقط لأنّ حزب الله ومنذ اليوم الأول لطوفان الأقصى أثبت بالقول والفعل أنه سيدافع عن الشعب الفلسطيني بكل ما يملكه من إمكانيات عسكرية وطاقات بشرية ضحت بالغالي والرخيص في سبيل فلسطين.
وأغضب ذلك الكيان الصهيوني ومن معه إقليمياً ودولياً فشنّ عدوانه الهمجي المستمرّ على لبنان مستهدفاً جميع قيادات الحزب العسكرية والسياسية وكوادر، وأهمهم من دون شكّ القائد والإنسان العظيم السيد حسن نصر الله.
ويعتقد الكيان الصهيوني أنه بجرائمه الغادرة هذه سيقضي على حزب الله حتى يتسنّى له الاستفراد لاحقاً بحماس، ومن ثم أنصار الله في اليمن وكل من يرى فيهم خطراً عليه وعلى حلفائه إقليمياً ودولياً وفي مقدّمتهم القيادات السورية والإيرانية.
وكلّ ذلك بغياب ردّ الفعل العربي والإسلامي العملي على ما قام ويقوم به هذا الكيان ضدّ الشعبين الفلسطيني واللبناني، وقبل ذلك السوري طيلة سنوات ما يسمّى بـ "الربيع العربي". وكان المتآمرون خلاله على سوريا إقليمياً ودولياً هم أنفسهم الذين يتآمرون الآن على فلسطين ولبنان بل وحتى العراق وإيران. كما كان الجميع يتآمر على سوريا، فقط لأنها صمدت ولم ترضخ للأجندة الإمبريالية ـــــ الصهيونية التي كان وما زال هدفها هو تدمير المنطقة برمّتها، ليتسنى للصهاينة تحقيق التفوّق العسكري ثم السياسي وأخيراً النفسي ضدّ كلّ من يعرقل أحلامهم في إقامة "دولتهم" الكبرى من النيل إلى الفرات"، لتكون كلّ سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ومعها نصف تركيا ومصر والعراق والسعودية لهم.
ومن دون أن يكون هذا الهدف الذي لم يعد يخفيه حتى المجرم نتنياهو وأمثاله من حكّام "تل أبيب" كافياً لتحريك الوجدان والضمير العربي والإسلامي، الذي إن استمرّ بما هو عليه من الخنوع والاستسلام فالتاريخ سيحاسبه عاجلاً كان أم آجلاً، طالما هو تجاهل ويتجاهل المجازر الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني والآن اللبناني، ولاحقاً كلّ شعوب المنطقة وبالدرجة الأولى مصر وتركيا والعراق والسعودية، ومعها جميعاً إيران جارة الدول الثلاث الأخيرة.
وهو ما يتطلّب من جميع هذه الدول وزعاماتها وحكوماتها بل وحتى مثقّفيها الشرفاء الاتفاق فوراً على الحد الأدنى من العمل المشترك لمواجهة الخطر المحدق بالجميع من دون استثناء، ومهما تأخّر هذا الخطر المحدق بالجميع.
وهنا لا بدّ من العودة إلى التاريخ القريب عندما أعلن السلطان العثماني محمد رشاد في الـ 11 من تشرين الثاني/نوفمبر 1914 "السفربرلك"، أي الجهاد الأعظم ( التعبئة العامة) ضدّ الدول التي أعلنت الحرب على الدولة العثمانية حليفة الإمبراطورية الألمانية التي كانت تحارب الدول الاستعمارية وفي مقدّمتها فرنسا وبريطانيا.
وانتصرت في الحرب العالمية الأولى وأعطت فلسطين لليهود في وعد بلفور، وقسّمت المنطقة إلى دويلاتها في سايكس بيكو وهو ما يعاني الجميع من تبعاته حتى الآن.
ولبّى مئات الآلاف من العرب وغيرهم في البداية دعوة السلطان العثماني وانضموا إلى الجيش العثماني الذي زاد عدد قواته عن 2,5 مليون، في الوقت الذي كان فيه عدد سكان تركيا الحالية أقل من عشرة مليون آنذاك.
وتراجع حماس العرب والمسلمين لاحقاً في هذا الموضوع بفضل دور الجواسيس البريطانيين، ومنهم لورانس وبيل وآخرون، حيث حرّضوا العرب ضد الدولة العثمانية بعد أن بدأت ترتكب العديد من الأخطاء الاستراتيجية، التي ساهمت في العداء القومي بين العرب والأتراك بعد استلام حزب الاتحاد والترقّي بقياداته الماسونية الصهيونية للسلطة في إسطنبول بعد عام 1911 وحتى هزيمة الحرب العالمية الأولى.
ودفع ذلك الحكومة العثمانية لإجبار عشرات الآلاف من العرب على الانضمام إلى الجيش العثماني، وخاصة في حرب الدردنيل (1915) وعلى الجبهة الروسية شرقاً. وكان هذا الإجبار مادة اجتماعية انعكست لاحقاً بشكل سلبي على العلاقات العربية ـــــ التركية، فغنّت فيروز في أغنيتها والفيلم الذي مثًلت فيه بعنوان "سفربرلك" عن الشاب الفلسطيني مشعل الذي اقتيد وتمّ إرساله إلى جبهات القتال في الدردنيل ولم يعد.
وفي جميع الحالات وللتذكير بمقولة كاتب النشيد الوطني التركي محمد عاكف الذي قال "يقولون عن التاريخ إنه يكرّر نفسه فلو استخلصت الدروس منه لما كرّر نفسه"، فقد حان الآوان بالنسبة لزعماء المنطقة ومعهم مثقّفوها إن كانوا صادقين في مقولاتهم في العداء للصهاينة للاتفاق على الحد الأدنى من العمل المشترك بعيداً عن كلّ ذكرياتهم السيئة كل مع الآخر.
ويتطلّب ذلك من الجميع التحرّك فوراً للإعلان عن "سفربرلك" جديد لمواجهة الخطر الذي يحدق بالجميع، ولا يختلف عن الخطر الذي كان يحدق بهم قبل وخلال وبعد السفربرلك العثماني ـــــ التركي الأول قبل 110 أعوام. وعاشت المنطقة من بعده ما عاشته حتى الآن، بعد أن فشل العرب والأتراك والكرد ومعهم الفرس ولأسباب كثيرة في الاتفاق على الحد الآدنى من القواسم والمصالح المشتركة التي لو كانت قد تحقّقت لما كنّا الآن نتحدث عن جرائم الصهاينة في فلسطين ولبنان وقبل ذلك في سوريا في فترات مختلفة من التاريخ الحديث.
ومن دون الدخول في تفاصيل متطلّبات المرحلة المقبلة بات لزاماً على زعماء المنطقة، ولو لمرة واحدة، ومعهم شعوبها ومثقّفوها وفي الحد الأدنى في تركيا ومصر والسعودية وسوريا، وهو ما اقترحه الرئيس إردوغان، وبانضمام إيران إليهم لعقد لقاء عاجل ومن دون أي شروط مسبقة قد تؤخّر أو تعرقل هذا العمل الصعب ولكنه ضروري لمواجهة العدوان الصهيوني.
بعد أن أثبتت كلّ المعطيات الأخيرة منذ طوفان الأقصى وبشكل خاص ما نعيشه جميعاً في لبنان منذ أسبوعين أن لا رادع له إلا بوحدة القول والعمل العربي ـــــ الإسلامي المشترك.
ومن دونه سيكون وسنكون جميعاً شركاء في الجريمة التي ارتكبها ويرتكبها الصهاينة، ومن معهم ليس الآن فقط في فلسطين ولبنان بل عبر التاريخ برمّته ضدّ الشعب الفلسطيني وكلّ من معه من الشرفاء الأوفياء لأوطانهم وأمتهم ودينهم، الذي قال لهم "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا"، فإن لم يفعلوا ذلك الآن فمتى!