- رفيدة عطايا
من قال إن الأشياء البسيطة لا قيمة لها؟! كالعلب الكرتونية مثلاً، تلك التي نسارع إلى التخلص منها في أقرب حاوية نفايات لمنازلنا، هي بمثابة معادن ثمينة لأشخاص يقدرون الأشياء التي لا قيمة لها بنظر الآخرين، ويصنعون منها أشياء ذات قيم متعددة؛ فالمهندس الصغير محمد الحلاق كان له مسار آخر في حياته، إذ لم تُقدَّم له الألعاب على طبق من فضة، بل قام بصنعها بنفسه، ليعيش طفولته كرجل يحمل مسؤولياته على كاهله، ويكسب رفاهيته بعرق جبينه.
بين قساوة الحياة والإنجاز ..
لم يكن يعلم الطفل "محمد" ببراءته أن الاحتلال يمكن أن يُحاصر الطفولة بالقيود ويكبلها، وهو الذي يتغنى بحقوق الإنسان والطفل، لكن رغم الظروف الاقتصادية الصعبة والخانقة في غزة، إلا أنه لم يجلس مكتوف اليدين يبكي قدره، إنما أعلن التمرد على قساوة الحياة، وقرر محمد أن يصنع بنفسه كل ما يحتاج إليه هو وأهله، ليعيش خمسة عشر عامًا من عمره بكرامة وعنفوان، لا بخنوع وانهزام.
يشير محمد إلى إنجازات كثيرة صنعها بنفسه، وآخرها كان "الروبوت" الذي يحاكي الإنسان. ويوضح قائلاً: "قمت بالانضمام إلى مركز الثقافة والفكر الحرّ الذي سجلني فيه والدي عندما اكتشفت أسرتي موهبتي الإبداعية؛ حيث كنت أستخدم أدوات بسيطة، وأقوم بإنجاز أعمالي. بدأت بصناعة الألعاب التي أريدها، كسيارة بجهاز تحكم، وسفينة، ولعبة التحكم بالأعصاب. وبعدها بدأت بالانتقال إلى مرحلة الملاحظة، ملاحظة كل الاحتياجات التي تحيط بي؛ فعندما كنت في إحدى الجلسات العائلية، لاحظت أن الجميع يأكل البزر إلا جدي، ما دفعني إلى القيام بصنع آلة تقشير تفصل القشر عن اللبّ، لكي يستطيع جدي مشاركتهم التسلية".
ويتابع الطفل الحلاق حديثه: "لقد كانت الأيام كفيلة في توليد الأفكار لدي؛ فبعد تعطل براد الرحلات الذي يحفظ الطعام ويبقيه باردًا، قمت بصناعة براد آخر للتخفيف عن والدي أعباء تكلفة شراء براد جديد".
الإبداعات تتجلى..
دخل الطفل المهندس فيما بعد عالم "الروبوتات"، لينطلق في مسار جديد من الإبداع، حيث بدأ يجرب صنع "روبوت" يصعد على الدرج، ثم تمكن بعد ذلك من تطوير قدراته، يقول محمد: "قمت بصناعة "روبوت" ثانٍ وظيفته أن يذكر الناس بوضع الكمامة [خلال جائحة كورونا]، وعندما يضع الإنسان الكمامة، يقوم "الروبوت" بشكره".
المتابع لهذه الموهبة الفلسطينية يرى العزيمة والتفاني لدى المهندس الصغير، في متابعة شؤون الناس واهتمامات من حوله؛ إذ تمكن محمد من تلمس احتياجات ذوي الهمم، وقرر أن يصنع لهم "روبوتًا" متخصصًا بمساعدة المكفوفين، يقول: "كان الهدف من وراء هذه الفكرة أن يقوم "الروبوت" بتحذير المكفوف من الحواجز التي قد يصطدم بها وتعرضه للأذى، كالحائط، والعامود الكهربائي".
لم يتوقف الطفل المهندس عند حدّ هذا الإنجاز؛ إذ يشير محمد إلى أنه أنهى مؤخرًا تصميم "روبوت" يخاطب الناس، ويتكلم معهم، ويتعرف إليهم، كالطفل الصغير عندما يبدأ عقله بتسجيل المعلومات وتحفيظها. ويوضح طبيعة عمل هذا "الروبوت" قائلاً: "حين يقوم "الروبوت" بالتعرف إلى شخص يدعى أحمد، ويسلم عليه، فعندما يراه في المرة المقبلة يسلم عليه باسمه من تلقاء نفسه، دون تذكيره به. وهكذا كلما تعلم شيئًا، يفعله بنفسه في المرة القادمة، ليطور نفسه بنفسه ويصبح صديقًا للإنسان".
عزيمة وتحدٍّ..
الطفل محمد خرج من قلب المعاناة، يحمل العزيمة والإصرار والمثابرة التي يفتقر إليها العديد من الأطفال الذين يقضون طفولتهم باللهو واللعب مقابل شاشات إلكترونية تستنزف طاقاتهم وقدراتهم العقلية. لذلك، فإن موهبة محمد جديرة بالذكر والاهتمام؛ إذ يكفي أنه وظف قدراته العقلية في الحياة العملية، كما أنه وازن بين موهبته وشغفه بصنع الأشياء، وتحصيله المدرسي، ليكون من المتفوقين بمعدل 95 بالمئة.
وفي معرض حديثه، يتمنى الطفل محمد الحلاق أن يصبح متمرسًا بعالم "الروبوتات"، وأن يدخل اختصاصًا جامعيًّا له علاقة بالتكنولوجيا، كي يشق طريقه ويصنع مستقبله ويحقق طموحه، من خلال العلم والفكر والتطور. وهذه دعوة كي يقوم أحد بتبني موهبته وتنميتها، كي يلتحق بركب المبدعين في العالم.
قد يستخف البعض بموهبة محمد، أو لا يرون بإنجازاته شيئًا يستحق الكتابة عنها، ويعتبرونها أمرًا مبالغًا فيه، أو يقولون: "متلو متايل، عشو مكبرين الموضوع". وهذا ما حدث بالفعل عند إخباري أحد الأشخاص عن موهبة محمد. لكن كلاّ، محمد لا يقارن بأي أحد من أقرانه في هذا العالم؛ فهذا المبدع ينحدر من قطاع غزة، من منطقة جغرافية محاصرة أشد الحصار، ومقيدة بإحكام، يفرض عليها الاحتلال الصهيوني حصارًا خانقًا، ويمنع عنها كل مقومات الحياة. ناهيك عن الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها أهل غزة، وعدم قدرتهم على تأمين المستلزمات المطلوبة لتطوير مواهب أبناءهم بسبب القيود المشددة والمحكمة. لذلك، نعم، محمد موهبة جديرة بالذكر والاهتمام، وتستحق التنويه بها والحديث عنها مرارًا وتكرارًا، ليكون خير قدوة ومثال لأبناء جيله.