لقد كان السيد حسن نصر الله، قائداً استثنائياً أرسى ثقافة النضال والمقاومة، وهو، خلال حياته كما في استشهاده، انتصر على "إسرائيل".
ما زال ارتقاء السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله شهيداً يثير، كما كانت حال حياته، سيلاً من التفاعلات داخل المجتمع الإسرائيلي. وفي هذا السياق، لم يكن غريباً أن يتناول نتنياهو في مؤتمراته الاستعراضية بعد ارتقاء السيد خطاب "بيت العنكبوت" الذي ألقاه الأمين العام الراحل، في 26 أيار/ مايو 2000، في بلدة بنت جبيل، أثناء احتفالات الحزب بالنصر بعد انسحاب "جيش" الاحتلال الإسرائيلي مهزوماً من لبنان في اليوم السابق.
منذ ذلك الحين، أصبح مفهوم "بيت العنكبوت" بالنسبة إلى "إسرائيل"، رمزاً للفجوة القائمة بين قدراتها العسكرية وروحها القتالية، وقد تكرس وتشرّب بعمق في الوعي الجمعي الإسرائيلي حتى بات وكأنه تعبير عن الاتجاهات الأصيلة في المجتمع الإسرائيلي. فالأزمات التي عصفت وتعصف بـ "إسرائيل" اليوم تتراكم، وباتت نقاط ضعفها مكشوفة وواضحة للعيان.
فأزمة التعديلات القضائية والاحتجاجات واسعة النطاق التي سادت "إسرائيل" قبل السابع من أكتوبر 2023، وحرب الاستنزاف الدائرة اليوم على جبهات المواجهة المختلفة، والصراع الداخلي الذي يعصف بها اليوم بعد إقالة وزير الحرب غالانت، تعزز مصداقية خطاب السيد بأن ضعف "إسرائيل" الداخلي يتزايد وتزداد معه القناعة بقدرة خصومها على ردعها والوقوف في وجهها.
لقد شكل مفهوم "بيت العنكبوت" أساساً لموقف "إسرائيل" الضعيف المتراخي على اختطاف حزب الله ثلاثة جنود صهاينة على حدود فلسطين الشمالية مع لبنان بعد أشهر فقط من انسحابها من لبنان، كما شكل أساساً للمواجهة مع "إسرائيل" بشأن الاتفاق بينها وبين لبنان حول ترسيم الحدود البحرية عام 2022، والذي تم التوقيع عليه، وفق بعض الإسرائيليين، بسبب تهديدات الحزب باستخدام القوة العسكرية ضد "إسرائيل" إذا لم يتم الاعتراف بحقوق لبنان في إنتاج الغاز من حقل "كاريش". لقد تصرف الإسرائيليون، من حيث علموا أو لم يعلموا وفق ما أراد السيد حتى من دون الحاجة إلى استخدام القوة من قبل الحزب.
لقد أسس هذا الخطاب فعلاً لوعي عام لدى الإسرائيليين، لا يقيم وزناً لاعتبار علاقات القوة بين الطرفين وقوة "إسرائيل" في مواجهة التهديدات الأمنية المختلفة، ففي سلسلة خطاباته التي ألقاها حتى قُبيل استشهاده، تناول نصر الله هذه القضية، وأكّدها وكرّر تقييمه بأن نهاية الكيان الصهيوني أصبحت قريبة، فالكيان اليوم، وفق رؤيته، "يواجه صراعات داخلية وتهديدات خارجية ستؤدي إلى تدميره ما سيدفع جموعاً من الإسرائيليين إلى التخلي عن إسرائيل والهجرة إلى الخارج".
لقد عكست خطابات نصر الله، مرة تلو الأخرى مراقبته الدقيقة لما يجري في "إسرائيل" من خلال ما ينشر في وسائل إعلامها وعززت تقييمه لوضعها الهش، واستنتاجه أن أزماتها الداخلية تُضعفها بشكل كبير، ما جعله يتمسك، وفق كثير من الإسرائيليين، بالاستراتيجية التي قادته في السنوات الأخيرة إلى إقامة "معادلة الردع" بين الحزب و "إسرائيل"، فكل نشاطات الحزب وتصريحات زعيمه وخطاباته هدفت في واقع الأمر إلى ترسيخ معادلة بيت العنكبوت وتغيير قواعد اللعبة ضدها في البر والجو والبحر، حتى أقر الإسرائيلييون أنفسهم أن نصر الله "أستاذٌ في إدارة الصراع والقتال على حافة الهاوية، مع تركيزه بشكل أساسي على المس بالروح المعنوية لدولة إسرائيل وإهانة كرامتها، كلما أتيحت له الفرصة لذلك".
يعلم الإسرائيلييون كذلك، أن سماحة الشهيد عرف جيداً كيف يقرأ "إسرائيل" مثل كف يده أو ككتاب مفتوح، فلقد تابع من كثب ما يحدث فيها في مستويات مختلفة: السياسة الإسرائيلية، والاتجاهات في المجتمع الإسرائيلي والخطاب الداخلي في "إسرائيل"، وعلى هذا الأساس، فهم الإسرائيليون أن نصر الله كان يخوض حرباً نفسية ضدهم، في إطار استراتيجيته الهادفة إلى تمهيد الأرض لحرب فعلية أو ربما لمنع الحرب.
ولقد تعلمت "إسرائيل" ومجتمعها أن هذه "الاستراتيجية النفسية" عملت لصالح الحزب، وربما لهذا السبب بدا السيد نصر الله على امتداد رئاسته للحزب واثقاً في خطاباته العامة التي تُعبّر عن عقيدته في ما يتعلق بالجوانب المعرفية والنفسية للصراع بين المقاومة و"إسرائيل". فالمقاومة تُحقّق النصر أو تُهزم، لا قدّر الله، ليس بالقتال في ساحة المعركة على الأرض، بل في ساحة المعركة "الإعلامية والنفسية"، فالدعاية في "معركة الوعي" هي التي تصنع الانتصار، ولأنها كذلك أدارها السيد بطريقة ذكية فأثمرت أفضل النتائج.
يمكن القول إنّ معادلة الردع بين السيد و"إسرائيل" مكّنته من إجبارها على التصرّف وفق القواعد التي حدّدها، ومَنعِها من استغلال تفوّقها العسكري ضد الحزب وضد لبنان بشكل عام، وقد استند جزء كبير من نجاح السيد في إرساء معادلة ردع ضد "إسرائيل"، على الرغم من تفوّقها العسكري، من فهمه لحدود قوة حزبه وأهمية وفعالية الحملة النفسية التي يقودها ضدها.
وفي هذا السياق، شكّل فهم العدو عوناً كبيراً في التعرّف إلى نقاط ضعفه أو قوته، بما مكّن السيد من ممارسة الضغط عليه بشدة من خلال وسائل الإعلام والخطابات العامة التي كان لها وقعها على الجمهور الإسرائيلي وإعلامه، الذي استمر في اعتبار حسن نصر الله شخصية مركزية في النظام السياسي والعسكري في لبنان بل في الشرق الأوسط برمته، فشخصيته وكرزميته وقيادته القوية أثرت بشكل كبير في تطور علاقة الصراع بين الحزب و "إسرائيل" وتعقيدها.
ولا شك أن جزءاً كبيراً من غيظ الإسرائيليين الشديد من السيد، رحمه الله، كان مرتبطاً بكونه متابعاً حثيثاً للإعلام والمجتمع الإسرائيليين، تَفحّصَ بانتظام نقاط القوة والضعف فيهما، وكان يمكن بكل سهولة أن يقرأ كل إسرائيلي ذلك في خطاباته التي تناول فيها القدرات العسكرية لـ "إسرائيل"، تصوّرها للأمن، وضعها المالي وعلاقاتها مع الولايات المتحدة، وموقعها على الساحة الدولية، سياستها الإقليمية، إلخ... وقد خصّص في خطاباته مساحة كبيرة للحديث عن ضعف "إسرائيل" كجزءٍ من حملة الوعي التي قادها ضدها عبر مفهوم "بيت العنكبوت"، الذي افترض أن المجتمع الإسرائيلي واهنٌ ولن يصمد أمام المزيد من هجمات المقاومة، ولن يكون قادراً على استيعاب الضحايا وسرعان ما ينهار.
لقد كُتب وقيل الكثير عن السيد حسن نصر الله في "إسرائيل"، قلة من باب التقدير وكثير من باب الكراهية والخوف، لكنهم جميعاً؛ الباحثون والمؤرخون وأجهزة الاستخبارات والأمن اتفقوا على أن شخصية نصر الله الفذة وقدرته الاستراتيجية وقيادته القوية أثّرت بشكل كبير على وعي الإسرائيليين وحفرت جراحاً عميقة غائرة فيه، كما على مجريات الصراع العربي مع "إسرائيل"، ولا شك أن اغتباطهم باغتياله لا يعكس فرحتهم بغيابه كزعيم قوي لتنظيم معاد فحسب، بل بغياب مفهوم "بيت العنكبوت" إرث الهزيمة والانكفاء والخوف الذي زرعه السيد في نفوسهم على امتداد سنواتٍ طوال.
نعم، لقد كان السيد حسن نصر الله، قائداً استثنائياً أرسى ثقافة النضال والمقاومة، وهو، خلال حياته كما في استشهاده، انتصر على "إسرائيل"، وخرج أكبر من قتلته المهووسين بالقتل وجرائم الحرب، وبالتأكيد فإن كُرههم له لم يمنعهم من الإقرار بمصداقيته التي فاقت مصداقية نتنياهو في نظر الإسرائيليين أنفسهم.