تحول المستوطنون إلى كتلة مركزية في الحياة السياسية في إسرائيل ليس على صعيد العدد فقط، حيث تقدر اعدادهم اليوم ما بين 600 الف و650 الف مستوطن وانما من حيث مدى تأثيرهم على اتجاهات الرأي العام في إسرائيل ومن حيث تحديد ورسم السياسات الإسرائيلية فما يتعلق بالرؤى الإسرائيلية للتسوية السياسية ومساهمتهم المباشرة فيها.
وبينما في العقود التي سبقت العقد الأخير كانت علاقة الاستيطان بالدولة والمجتمع والمستوطنين هي من حيث الجوهر علاقة الطرف او الهامش بالمركز، اصبح المستوطنون جزءاً عضوياً وفاعلاً "لأسباب سنأتي عليها" في هذا المركز في العقد الأخير تحديداً.
هذا التحول الكبير كان في الواقع نتيجة منطقية لتراكم الحقن الأيديولوجي الصهيوني حول "ارض إسرائيل" وحول العلاقة "التاريخية" بين "شعب إسرائيل وأرضه" وحول "أهمية" الاستيطان في تحقيق "الحق" الإلهي في السيطرة على "أرض إسرائيل".
وعلى هذا الصعيد بالذات فإن المجتمع الإسرائيلي لم ينقسم إلى ما هو معارض وما هو مؤيد لهذا الحق من حيث المبدأ، ولم نشهد إزاء هذه المسألة يميناً ويساراً ووسطاً في إسرائيل.
إن ما شهدناه هنا هو "اختلافات" على معالجة مشكلة السكان الفلسطينيين، وفيما إذا كانت هذه المعالجات "تقتضي" "التنازل" عن هذا الجزء أو ذاك من "أرض إسرائيل" للمحافظة على سلامة وأمن ونقاء المجتمع والدولة في إسرائيل، وفيما إذا كان هذا "التنازل" سيفضي إلى هذه الدرجة أو تلك من تخفيف القبضة عن هؤلاء الفلسطينيين أو الإبقاء على حالة التحكم الكاملة بحياتهم.
من على هذه القاعدة فقد حصد المستوطنون ثمار ثلاثة أو أربعة عقود من السياسات الإسرائيلية التي تغذي الاستيطان مباشرة كما حصدوا نتائج أكثر من مئة عام من الحقن الأيديولوجي حول حق الاستيطان في "أرض إسرائيل" كحق "مطلق" وإخضاع وتيرة هذا الاستيطان للظرف السياسي ولموقف المحيط من هذا الاستيطان.
وفي حين يرى "مهند مصطفى" في كتابه الصادر عن "مدار" المستوطنون من الهامش إلى المركز" ان الصهيونية العمالية بنت إسرائيل فإن الصهيونية الدينية قد بنت مشروع الاستيطان في الضفة وغزة، وبقي دور المتدينين الأرثوذكس قائماً في كل مرحلة وظل "العلمانيون" يسكنون حول الخط الأخضر منذ عام 1977 (وهو تاريخ اول انتصار يميني في الانتخابات) بدأ يتلاشى الفرق بين هذه التجمعات وبدأت عملية انصهار جديدة للأجيال الشابة من الصهيونية الدينية وبدأت عملية تحول تاريخية نحو اليهودية السياسية (على شاكلة الإسلام السياسي) وازدادت القوة السياسية للاستيطان والمستوطنين مع تجذر هذا الدور وهذا التحول الكبير.
إذا أضفنا إلى كل ذلك عامل المأسسة لهذا التحول والذي تجسد في مجلس المستوطنات والذي أعلن عنه في العام 1980 ثم العامل الاقتصادي وهو العامل الذي تخفي إسرائيل الحقائق والأرقام الفعلية عنه سواء من زاوية ما تقدمه من دعم أو من زاوية ما يحصده الاقتصاد الإسرائيلي من الاستيطان... إذا أضفنا هذه العوامل على العوامل التاريخية والأيديولوجية للاستيطان نستطيع أن نفهم كيف تحول دور المستوطنين من دور هامشي إلى دور مركزي في الحياة السياسية في إسرائيل.
أزعم هنا أن النخب السياسية الفلسطينية لم تعر هذا السياق من التطور والتحول للاستيطان والمستوطنين الاهتمام المطلوب، وأزعم أيضاً أن القوى السياسية وفصائل العمل الوطني الفلسطيني تعرف عن هذا الموضوع أقل بكثير مما تعرف عن كيفيات إجادة الخلاف والاختلاف عن بعضها البعض والسبل والوسائل التي تبرر به تحويل هذا الخلاف والاختلاف إلى "أيديولوجيات متكاملة".
المهم هنا هو أن دور المستوطنين لم يقف عند هذه الحدود. فمع اندلاع الانتفاضة الثانية بدأنا نلحظ تحولات "عسكرية" في أوساط معينة من المستوطنين وبدأت عمليات تنظيمية مثابرة نحو "ملشينت" المستوطنين وبدأنا نلحظ وجود وتواجد لتنظيمات "سرية" مسلحة تعد نفسها لأدوار عسكرية قادمة!!! تختلف عن المنظمات السرية السابقة.
لقد ظهر في الصحافة الإسرائيلية نفسها وفي بعض وسائل الإعلام المرئية تقارير تكفي وتزيد للتأكد من أن المستوطنين يعدون أنفسهم لتمردات كبيرة ضد الجيش الإسرائيلي ان هو حاول المس بنشاطاتهم، كما يعدون أنفسهم كقوة تدخل أمني إلى جانب أجهزة الجيش وأجهزة الأمن الإسرائيلية الرسمية.
كما لوحظ في السنوات الأخيرة أن منظومات فكرية متكاملة اصبحت تقف خلف كل هذا الإعداد والاستعداد اضافة إلى الدعم المتزايد لهذه الأنشطة في بعض الوحدات العسكرية الإسرائيلية وفي أجهزة الأمن وفي أوساط قضائية أيضاً.
امام هذا الواقع فإن مخطط الاستيطان قد تحول من حماية المستوطنين باتجاه تحويلهم إلى قوة أمنية مسلحة لها أذرع عسكرية سرية قادرة على حماية نفسها من جهة والمبادرة إلى الهجوم على التجمعات الفلسطينية وإرباك حياتهم وتدمير ممتلكاتهم والمشاركة المباشرة في مصادرة أرضهم والاستيطان عليها بعد أن يحولوا حياة السكان على الأراضي المستهدفة (حسب جدول الأعمال) إلى جحيم لا يطاق.
أزعم هنا أيضاً أن خطة الاستيطان ما زالت في مراحلها الأولى لأن الخطط القادمة هي زيادة الأعداد إلى ما يزيد على مليون أو مليون ونصف مستوطن في الضفة لكي يتم تحويل الصراع آنذاك من صراع وطني تحرري بالنسبة للشعب الفلسطيني وصراع على الاستيطان بالنسبة إلى المستوطنين إلى صراع جديد ومن نوع جديد.
هذا الصراع الجديد هو تصوير الحالة كحالة حرب اهلية بين فلسطينيين وإسرائيليين يلعب فيه الجيش الإسرائيلي دور الحكم ودور الجلاد ودور القاضي في الوقت نفسه. فحتى تستفيق فصائل العمل الوطني من نومها وحتى تخرج نفسها من الشرنقة التي تقوقعت بداخلها. هل ستكون عملية إعدام الفتى "أبو خضير" مناسبة للمراجعة؟.