ليس هذا جديدًا؛ فالتاريخ يظهر قصر نظر الأنظمة الاستبداديّة والمتوحّشة، والأنظمة الاستعماريّة العنصريّة الإحلاليّة، وتحديدًا في القرن العشرين، الّتي سقطت في نهاية المطاف، سقوطًا مدوّيًا وحاسمًا...
لا تفكّر إسرائيل في مكانتها العالميّة وصورتها أمام شعوب العالم، وكيف سيحكم عليها التاريخ بعد كلّ الفظائع الّتي ترتكبها في فلسطين ولبنان وأهل المنطقة. بل لا تفكّر في الخسائر الاستراتيجيّة الّتي تلحق بها وتأثير ذلك على مسار الصراع.
إن تعطّشها للثأر، وجموحها لترويض الناس، وملاحقة وهم دفن قضيّة فلسطين، ومحاولة إعادة توطيد مركزيّتها وتفرّدها المطلق في السيطرة على المنطقة العربيّة، وخرافة تغيير خريطة الشرق الأوسط لصالح مشروعها التوسّعيّ المتوحّش، كلّ ذلك لا يسمح لها بالتوقّف والتفكير مليًّا بمآلات جنونها وتبعاته. ومن خلال المجزرة المستمرّة بحقّ الصحفيّين، الفلسطينيّين والعرب، تعتقد أنّها قادرة على محو الحقيقة، وتغيير الصورة الّتي رسمتها أفعالها الهمجيّة. بعض الأصوات الإسرائيليّة، العاقلة والنادرة، تقول إنّ إسرائيل لا تدرك، وهي في فاقدة لعقلها، أنّ حجزها لمكان في تاريخ جرائم الإبادة، لا رجعة عنه، أو لا يمكن جبره.
يواصل نظامها الإباديّ ممارسة القتل، من أجل القتل، ويمضي في توسيع عدوانيّته، تحت شعار تغيير الشرق الأوسط، وفق رؤية ظلاميّة استحوذت على رئيس النظام، وعصابته المسيانيّة، الدمويّة، معتقدًا أنّه قادر على تحقيق هذه الرؤية مستندًا إلى استنفار محور الإبادة الأميركيّ والغربيّ، وما حقّقه من اغتيال لقادة المقاومة اللبنانيّة والفلسطينيّة، ووقوف عدد من الأنظمة العربيّة الذليلة والساقطة إنسانيًّا وأخلاقيًّا، إلى جانبه. ربّما ما يشجّع هذا النظام أيضًا كون كلّ الحراكات الطلّابيّة والشعبيّة في أميركا وأوروبا، غير المسبوقة في اتّساعها وقوّتها وخطّها الأخلاقيّ التحرّريّ، لم تنجح حتّى الآن في وقف المذبحة، ولكنّه لا يستطيع أن يدرك ما أحدثته وتحدثه هذه الحراكات على مستوى الوعي الكونيّ بالعدالة.
ليس هذا جديدًا؛ فالتاريخ يظهر قصر نظر الأنظمة الاستبداديّة والمتوحّشة، والأنظمة الاستعماريّة العنصريّة الإحلاليّة، وتحديدًا في القرن العشرين، الّتي سقطت في نهاية المطاف، سقوطًا مدوّيًا وحاسمًا. وبعضها أدرك لحظة الحقيقة في اللحظة الأخيرة، ليجلس مع ضحاياه على طاولة واحدة لتحقيق العدالة والسلام.
ربّما يبدو التفكير بما بعد الحرب، وكيف ستبدو الصورة أو المشهد العامّ، وما هو مسار العمل المتوقّع أو المطلوب لصالح مواصلة النضال من أجل قضيّة التحرّر، في وقت يتعاظم التوحّش، وكذلك الألم، ترفًا أو هروبًا ممّا يمكن عمله للجم هذا التوحّش الآن. نقول ذلك لأنّ الجميع، ممّن لديه القدرة على الفعل، قوى دوليّة وعربيّة، إمّا مشارك في الجريمة، أو متواطئ أو عاجز، وبالتّالي، فإن لا نهاية في الأفق القريب، والمراهنة الوحيدة المتبقّية هي على قدرة المقاومة على الصمود، وتمسك الشعب بحقّه، وعلى دعم أحرار العالم.
أيضًا يعود ابتعاد أفق الخلاص إلى استمرار الانقسام الفلسطينيّ الشائن، إذ ثمّة طرف بليد وعقيم ومستسلم. أمّا الجديد المطلوب، فما زال يصارع مخاض الولادة الّتي لا نعرف متى يكتب لها النور. وأصحاب مشروع توليد قيادة جديدة أو تيّار شعبيّ وطنيّ واسع تحرّريّ وواقعيّ، وهم من أبناء وبنات الشعب الفلسطينيّ الأبرار، ينطلقون ممّا أشاعه الفعل المقاوم من إحياء لثقافة النضال، وإعادة شحن الشعب بروح التمسّك بالحقّ.
إذًا من هي الجهة المرشّحة لاستثمار مفاعيل المقاومة والإبادة، من الّذي يستطيع لعب دور مهمّ في مراكمة عناصر القوّة، الثقافيّة والسياسيّة والقانونيّة. في بدايات الحدث بدأت الحراكات الطلّابيّة والحراكات الشعبيّة في الجامعات الأميركيّة، والمدن الأميركيّة والغربيّة، قوّة صاعدة ومبهرة، في مقابل سلبيّة جماهير الوطن العربيّ. ولكنّها ما لبثت أن وقعت تحت سكّين القمع، بصورة غير مسبوقة. وهذه الحراكات، وقادتها ونشطاؤها، وجدوا أنفسهم يقاتلون من أجل الدفاع عن حقّ التعبير والحراك، بعد أن كان محور تحرّكهم هو الضغط على حكومات الغرب الإباديّة، لردع إسرائيل، ووقف شحن السلاح وتحويل الأموال لنظام الإبادة الإسرائيليّ.
نعم، تكوّمت عراقيل كثيرة أمام هذه الحراكات الهامّة، وأمام قادتها وناشطيها، بسبب الملاحقات السياسيّة والقانونيّة، وهذا تحدّ كبير أمامهم، إذ يضطرّون لتخصيص جهد كبير لمواجهته. لكنّهم مستمرّون، وقادرون على الإبداع، فالتغيير الحاصل عندهم ليس سطحيًّا أو عابرًا، بل تغييرًا معرفيًّا وثقافيًّا وأخلاقيًّا.
يبقى لهذا الحراك، الّذي تنخرط فيه أطر يهوديّة تقدّميّة تحرّريّة أهمّيّة استراتيجيّة كبيرة، تتعلّق بتغيير تراكميّ تدريجيّ في الرأي العامّ الأميركيّ والغربيّ، وتوليد ضغط على النخب والمؤسّسات الحاكمة، وتحدّي المؤسّسات غير الرسميّة المتواطئة والإعلام المصطفّ إلى جانب نظام الإبادة.
أمّا الجهة الأخرى الّتي يمكن أن تؤدّي دورًا في الجهد هي فلسطينيّو الـ ٤٨. ومع أنّهم يتعرّضون لحملات متزايدة من القمع والملاحقة، ولموجات من القوانين العنصريّة الجديدة، إلّا أنّهم يستطيعون، بفضل موقعهم الجغرافيّ والسياسيّ، وبفضل تمرّسهم في مقارعة النظام الإسرائيليّ، في الساحة السياسيّة والايدلوجيّة والقانونيّة، وإذا ما عكفوا على التفكير، وأتقنوا عمليّة إعادة تنظيم صفوفهم، أن ينخرطوا في معركة الوعي، وفي الجهد الجاري لحصار إسرائيل عالميًّا، بالتعاون مع نشطاء ومثقّفين يهود إسرائيليّين، مناهضين للصهيونيّة ومناصرين للتحرّر والعدالة. كما أنّ شراكتهم النضاليّة مع قوى يهوديّة إسرائيليّة من أجل وقف الحرب، وشلّال الدماء، وتحقيق العدالة والسلام، ساحة مهمّة، وضروريّة، وإن كانت حتّى الآن تبدو ضيّقة جدًّا، نظرًا للحالة العنصريّة القاتلة الّتي أدخل فيها قادة إسرائيل مجتمعهم إليها، هذا المجتمع الّذي سيصحو على واقع لا يستطيع فيه السكوت.
وبالتوازي مع هذا الجهد، من شأن التفاعل المنظّم أن يفتح أفقًا لحراك أوسع للأطر القانونيّة، والاجتماعيّة، والشعبيّة في الضفّة الغربيّة والقدس، الّتي تتعرّض هي الأخرى لتضييقات وملاحقات على مدار اللحظة. هكذا تنفتح ساحة للتشابك والتفاعل بين قوى التغيير، ويصبح أفق التغيير الكونيّ لصالح قضيّة فلسطين والعدالة والسلام، وليس لصالح مشروع الشرق الأوسط الجديد التوسّعيّ العدميّ.