حيفا.. عادت إلى نفسها من نفسها في الفترة الأخيرة..حيفا نفضت عن نفسها بنفسها غبار النسيان والتشويه والتزوير.. حيفا استعادت تاريخها المسلوب وأعادت أسماءها الأصيلة إلى خارطتها، حيفا.. ازدانت بصورها الشاهدة على تاريخ مجيد ونكبة أليمة وواقع مهمش، لكنها المتفائلة بمستقبل يكلله الفرح المشروع،
حيفا.. مركز الثقافة العربية تحتفل وتحتفي بالكتاب الذين كرموها بعدما أكرمتهم.. حيفا تحتضن روافد الثقافة من أعالي الجبال إلى ما وراء الوديان والتلال والتي تصب في بحرها الزاخر بالالهام والعطاء والسحر والجمال.. حيفا عنوان لخريطة وكتاب وصورة، وعنوان لحضارة عربية انسانية عملت أيدي الشر والخبث، إلى تشويهها وتبديل معالمها واخفاء آثارها، لكن ما استطاعت اغتيال تأثيرها.. ها هي حيفا تنتفض وتنفض عن كرملها وساحلها غبار النسيان والتعتيم والتشويه.. بعدسات وكلمات ورسومات أبنائها الذين لم تلدهم، الأوفياء للحضن الدافيء وربة الهامهم وأحلامهم وابداعاتهم.. حيفا البيوت العتيقة في وادي الصليب ووادي النسناس والحليصة والمحطة، تعلن أن البقاء يولد الحياة الجديدة التي تلوح تباشيرها خلف أمواج البحر، وبعيد الشمس النائمة في حضن الكرمل، ومن عصير النباتات المعشوشبة بين حجارة البيوت المنتظرة أحبائها.. ومن رائحة أسواقها العتيقة وتراب ملاعبها المندثرة وشوارعها الضيقة.
فاء الاسم.. والمدينة.. والمصادفة الجميلة
حيفا المتوجة بحرف الفاء، والتي تجمع مثقفين عربا من مختلف المنابت والجذور، تحولوا إلى أعلام في كنفها ثقافيا واجتماعيا وتربويا وسياسيا أيضا، تجمعهم في حاراتها وميادينها وقاعاتها، رغم تشتتهم بين قيس ويمن أو قومي وأممي أو كرملي وساحلي.
جمعت وربما بمصادفة تأتي خيرا أكبر من ألف ميعاد مسبق. جمعت في الأسبوع الأخير معها في حرف الفاء مثقفين اثنين فاعلين في الحياة السياسية والاجتماعية، يفتتح الاسم الشخصي لكل منهما حرف الفاء (وإن كان أحدهما يتوج الفاء اسم عائلته أيضا)، وجمعتهما في كتابين للسيرة الذاتية كانت المدينة القاسم المشترك لهما، وكان أوان الاصدار والاحتفاء بصدورهما، بل كان لون الغلاف مشتركا.. فهل كل ذلك يحمل سرا من أسرار مصادفات حيفا؟!
انهما الأديب والمربي والناشط السياسي فتحي فوراني والناشط السياسي والاجتماعي الأستاذ فهد عبود، اللذان سبق وأن وصلا الى عضوية بلدية حيفا ممثلين لحزبين يساريين، تمسك الأول به وما زال والثاني أصابته خيبة الأمل فابتعد حزبيا وبقي سياسيا مبدئيا. الأول قادته الأقدار لأن يتحول إلى مرب ومدرس للغة العربية وآدابها التي يعشقها الى حد العبادة، في الكلية العربية الأرثوذكسية التي جمعت طلابها من مختلف الأطراف والمناطق وصهرتهم في تربيتها القومية. والثاني نشأ في بيت مسيس فاعتمد واكتوى بنار السياسة الى حد الارهاق بعدما غرق فيها حتى الأعماق، وخرج يائسا لا يحمل أي بشرى تقضي بالتعايش المشترك المزيف.
الأستاذ فتحي جاء من النصرة واستقر في حيفا، وأطلق على سيرته الذاتية المقولبة بلغة أدبية جميلة ومحبوكة من قبل معلم ومبدع فيها، عنوان " بين مدينتين". أما الأستاذ فهد فجاء من البقيعة الجليلية إلى حيفا الساحلية وجعل سيرته "محطات بين القرية والمدينة"، وكان كتابه فعلا عبارة عن محطات من الذكريات المنتقاة والمختارة من مسيرته الطويلة العريضة في الحياة. المدينة اذا كانت القاسم المشترك بين كتابيهما كما كانت القاسم المشترك الذي حملهما في أهم سنوات عمريهما.
هنيئا لحيفا بأبنائها الأوفياء الذين بادلوها حبا بحب ووفاء بوفاء، وهنيئا للعلمين فهد وفتحي بتاريخهما الناصع والغني.. وهنيئا لنا بما اكتسبناه وتغذيناه من سيرتيهما.
الصورة والخريطة وحيفا العربية ماضياً.. ومستقبلاً
فاجأتنا بالأغنية المرافقة لصور حيفا، ما أن أطلت الصورة الأولى تصاحبها الموسيقى، توقعت أن تكون موسيقى الرحابنة وصوت فيروز معها.. هكذا اعتدنا في مثل هذه المواقف، لكن روضة غنايم فاجأتنا باختيارها لأغنية مصرية عذبة، لفنانة رومانسية جميلة تعيش في أجزاء من أفئدة ذكرياتنا الفنية، انها شادية بصوتها الحنون الساحر، حيث لاءمت روضة بين الصور التي حملت أولا عنوان حيفا تنهض من نومها، وهي صور لمدينة حيفا في الصباح، يرافقها صوت شادية العذب وهي تنشد "قولوا لعين الشمس ما تحماشي.. لأحسن حبيب القلب صابح ماشي" ما أروع هذا التناغم بين الموسيقى والغناء والصورة لأحياء وبيوت وبحر حيفا في الصباح.
روضة غنايم التي حلت في حيفا الساحرة بجمالها قبل ثلاث سنوات، تركت بلدتها باقة الغربية في المثلث لتستقر في حيفا التي أحبتها من اللقاء الأول.. ومن شدة دهشتها واعجابها بحيفا حملت آلة تصوريها الخاصة وأخذت تلتقط الصور لزوايا وجوانب حيفا الجميلة، وكما أمتعتنا ببعضها على صفحتها الاجتماعية. وبعد ذلك تطورت الفكرة لديها بعدما صدمتها نظرة السائحين لحيفا ومعالمها وأحيائها العربية، فانتحت تلتقط الصور لحيفا الأخرى، المهمشة، المهملة والمتعبة، وعرضتها أمام أعيننا في أمسية حملت عنوانا ظريفا "حيفا العروس - حيفا صور جمال معتق". وجمعت روضة في أمسيتها تلك معظم عشاق حيفا، وتسابق الشعراء إلى القاء قصائدهم المتيمة بحيفا من الشاعر رشدي الماضي، الذي تولى عرافة الأمسية وأبدع في التغني بروضة وحيفا معا، فالشاعر أسامة حلبي المتأثر بزيارته لحيفا بعد غياب سنوات طويلة، الى الشاعر الواعد علي مواسي بقصيدة رائعة تعكس انفعالاته ورؤيته للمدينة المتناقضة في تفاصيل حياتها اليومية، الى الشاعرة الشابة حنان جريس خوري بتحديها للمُسَلَّمَاتْ. وقلت في سري يجدر بنا أن نطلق على هذه الأمسية عنوانا اضافيا "ملتقى عشاق حيفا".
وسبق هذا المعرض بثلاثة أيام أن عقد في مسرح الميدان حفل اطلاق "خارطة حيفا العربية" من اعداد الباحث الدكتور جوني منصور، وبرعاية جمعية التطوير الاجتماعي التي تدأب على حماية الذاكرة التاريخية ودفع الواقع نحو مستقبل أجمل لأحياء حيفا العربية. عمل آخر جمع عدد كبير من أبناء حيفا ومحبيها ومريديها الذين جاءوا ليشهدوا ميلاد "خارطة حيفا العربية" على أمل أن يشهدوا ميلادا جديدا لحيفا التي تعشش في ذاكرتهم التي لا تموت، والتي يتمنون أن تعود ولو لليلة واحدة. الدكتور جوني منصور الذي لا يكف عن البحث والتنقيب والحفر عميقا في منجم حيفا، وكل مرة يعثر على مجوهرات ودرر جديدة، ينفض عنها عوامل الزمان والتجاهل والتزوير ويقدمها لنا بقالب مجدد يحفظ عبق التاريخ والتراث الأصيل. ولأول مرة تحظى حيفا العربية، ويحظى محبو حيفا الكثر على خريطة ترشدهم وتسير بهم في أحياء وبين بيوت ومعالم حيفا العربية، ضمن مسارات مدروسة وصحبة صور ومعلومات نادرة تزود الزائر لحيفا بزاد ثقافي، جغرافي، تاريخي، يكفيه ليعرف حيفا المجهولة والمخفية عن الأنظار والتي كانت الوجه الناصع الى سنوات غير بعيدة لحيفا عروس البحر والكرمل.
فألف تحية للباحث الدكتور جوني منصور وللناشطة والمصورة روضة غنايم على ما قدماه لنا ولكل عشاق حيفا ولأهلها في الوطن والخارج، وعلى هذه الاستعادة التاريخية لحيفا والمبشرة بأمل أن "آن لحيفا أن تنهض"، فهل يكون ذلك الأمل تحقيقه قريبا؟!
* كاتب فلسطيني يقيم في مدينة شفاعمرو/ الجليل