هذا هو المشهد الآن، ملخّصاً بشكل شديد التعبير: «عار عليك يا ماكرون. إيران تزود حلفاءها بالسلاح، وأنت تطالب بوقف تصدير السلاح إلى إسرائيل!» هذا ما صرَّح و«صرَّخ» به نتياهو، مسعوراً وحانقاً، رداً على خطاب الرئيس الفرنسي الذي درج، أخيراً، على تكرار طلبه بوقف النار في غزّة، ليستطرد فجأة، أخيراً، ويقول: «لا يمكن استمرار تزويد تل أبيب بالسلاح فيما نطالبها بوقف إطلاق النار». دلالات الحدث لا تقتصر على «صحوة» الرئيس الفرنسي وغضب رئيس الحكومة الإسرائيلية. إنها، بالأساس، في حجم تبدل المواقف، ومعها المشهد العام في المنطقة والعالم، منذ سنة حتى اليوم: أي منذ السابع من أكتوبر عام 2023 إلى ما بعد سنة بالتمام والكمال على حرب غزة.
نتذكر أنه قبل سنة، حضر الرئيس الفرنسي إلى تل أبيب. كان قد سبقه إليها قادة حلف الأطلسي: الرئيس الأميركي، والمستشار الألماني، ورئيس الوزراء البريطاني والإيطالي و... لتقديم الدعم الكلي للعدو الإسرائيلي. حاول الرئيس الفرنسي استدراك تأخره عنهم، ليوم أو يومين، بإطلاق «زمور» تنبيه على الطريقة الفرنسية عموماً والماكرونية خصوصاً: الدعوة لتشكيل «تحالف عالمي» ضد «حماس»! وقد باشر الرئيس الفرنسي زيارات فورية إلى مصر والأردن... إلا أنه سمع ما فاته نتيجة سرعته وتسرعه: إسرائيل دولة محتلة، ونحن لا نستطيع المجاهرة بحقيقة مواقفنا رغم التطبيع. ذلك يتعارض مع المزاج الشعبي في بلداننا ومع القانون الدولي لجهة رفض حكومة تل أبيب تطبيق «حل الدولتين» منذ ثلاثة أرباع القرن إلى اليوم... شعر ماكرون بشيء من الخيبة، ولكنه واصل حماسته لتأييد «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» وفقاً لما قرره الأميركيون وتبناه الحلفاء والأتباع.
الإحراج الفرنسي بلغ ذروته عندما أعلن أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن «أحداث غزة لم تبدأ في السابع من أكتوبر». لفت ذلك إلى أنها رد فعل على احتلال وحصار ورفض للقرارات الدولية: من «قرار التقسيم»، إلى قرار «حق العودة»، إلى القرار 242، إلى قرار إنشاء دولة خاصة بالفلسطينيين وفقاً لقرار التقسيم نفسه، وحتى إلى اتفاق أوسلو السيئ الذكر... باختصار، ما مفاده أن «غزّة»، مقاومة وشعباً، هي في موقع الدفاع عن النفس: ضد الاعتداءات الإسرائيلية، وضد الحصار الشامل والممتد لأكثر من 15 عاماً، وضد القمع والاعتقالات والغارات والإرهاب... الواقع أن ما عبَّر عنه الرئيس الفرنسي هو جزء من تحوُّل أكبر على مستوى القضية الفلسطينية في مشارق الدنيا ومغاربها بما فيها البلدان الأكثر دعماً ورعاية وتمويلاً للمشروع الغربي الصهيوني في فلسطي
وهو تحوُّل كبير ومؤثر حفَّزه، بالدرجة الأولى، صمود المقاومة الفلسطينية طوال عام كامل، في دفاع مستميت يليق فقط بأصحاب القضايا الكبرى والعادلة. اقترن هذا الصمود العسكري بصمود مدهش للشعب الفلسطيني في غزة خصوصاً. ما تعرض له حوالى 2,3 مليون فلسطيني في «القطاع» من إجرام وتنكيل ودمار صنِّف، رسمياً على المستوى الدولي، كـ «حرب إبادة»، سطَّر، بأروع الأشكال وأفدح الأثمان، جدارة الشعب الفلسطيني بأرضه وبوطنه المغتصب والمحتل، في مواجهة آلة قتل صهيونية استعمارية لا سابق لوحشيتها وضراوتها في التاريخ!
إلى ذلك، فإن الرئيس الفرنسي قد استثار أيضاً، غضب واشنطن بفضح معادلتها المخادعة والمضلّلة القائمة على ثنائية: بيع الكلام الكاذب للرأي العام، بادعاء السعي إلى وقف إطلاق النار، ومدِّ عنصريي تل أبيب وفاشييها بأفتك أنواع الأسلحة، وبعشرات المليارات من الدولارات لدعم مجهودهم الحربي الإجرامي، ولتعويض خسائر كيانهم الاقتصادية الفادحة.
استثار الصمود والمقاومة من جهة، وحرب الإبادة الهمجية المدعومة من الغرب، من جهة ثانية، موجة غضب عمّت العالم بأسره. كانت أبرز حركات الاحتجاج وأهمها هي تلك التي شهدتها شوارع لندن «القابلة» غير الشرعية لولادة الكيان الصهيوني في فلسطين. كذلك شهدت مدن أميركا الكبرى وأهم جامعاتها وأعرقها حركة احتجاج غير مسبوقة حاصرت الصهاينة وأسقطت مزاعمهم وزيف رواياتهم حول التاريخ والحقوق والوقائع.
لم يحصل التحول بثمن عادي. لقد كان ولا يزال الثمن هائلاً، بسبب تمادي الهمجية الفاشية والعنصرية الصهيونية المدعومة بلا حدود، رغم محاولات الخداع والتضليل، من قبل قوى الاستعمار الغربي الأطلسي. يقترن ذلك باستمرار تواطؤ معيب من الأنظمة العربية المطبِّعة والتابعة والأداة. وهو تواطؤ اتخذ شكل مشاركة غير مباشرة، أو حتى مباشرة أحياناً، كما حصل أثناء التصدي للرد الإيراني على قصف قنصلية طهران في دمشق. لم تحصل التحولات الكبرى في التاريخ من دون تضحيات وآلام عظيمة: جزائر (المليون شهيد)، وفييتنام حرائق النابالم والقصف الوحشي الأميركي، وجنوب أفريقيا القمع الشامل والتمييز العنصري المرعب... لقد فتحت التضحيات الفلسطينية العظيمة الملف الفلسطيني مجدداً، وهو ملف كان، بالتآمر والتواطؤ وبالتطبيع وبالعدوان، على وشك أن يُختم على تصفية «ناعمة» لكامل حقوق شعب فلسطين وقضيته، وبأفق السيطرة الأطلسية الكاملة على مقدرات الشرق الأوسط.
تُروى الآن قصة الشعب الفلسطيني مضمّخة بالبطولة والشهادة والتضحيات. ولعب «الإسناد» دوراً كبيراً ونبيلاً في دعم صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته، وفي منع الاستفراد بها وبه، وفي تعويض بعض التواطؤ والتقاعس والتآمر الرسمي العربي... وهي تُروى في أربع أرجاء العالم، بوصفها، بامتياز، حكاية حق وعدل وصمود، من جهة، وحكاية عدوان وظلم ووحشية، وهمجية من جهة أخرى.
لقد خسر الغرب معركة الأخلاق. في لحظة صحوة وتجلٍّ، اعترف الرئيس الأميركي بذلك حين قال: «إن 80 بالمئة من أسباب تراجع سمعة أميركا الأخلاقية في العالم هي نتيجة تأييدنا لإسرائيل»! وخسر الغرب أيضاً، وهو الذي يدّعي أنه «العالم الحر»، وأن الكيان الصهيوني هو «واحة الديموقراطية الوحيدة» في الشرق، خسر معركة الحضارة وحقوق البشر والشعوب! وسيخسر حتماً، بفضل المقاومة والصمود والتضحيات… المعركة السياسية والعسكرية لاحقاً: مهما غلت التضحيات وطال الزمن.
* كاتب وسياسي لبناني