تدهشني دهشة اسرائيل من وضعها في القائمة السوداء كقاتلة للأطفال، أخيراً، ترى نفسها في قائمة واحدة مع «داعش» و»بوكو حرام»، الحقيقة أن الأمر تأخر كثيراً جداً في عالم شديد التثاقل بعد ثمانية أشهر من الإبادة، وقد كان الأمر واضحاً منذ الأسابيع الأولى والأيام الأولى والضربات الأولى ولم يخفِ قادة اسرائيل مبكراً أنهم سيصنعون نكبة والإشارة المبكرة لليابان وألمانيا وتغيير الوعي ما كان يعني الذهاب نحو مجازر تتجاوز ما رأيناه سابقاً.
الدهشة الإسرائيلية تعيد التفكير أكثر بطبيعة العقل الإسرائيلي. هل يصدق فعلاً أنه جيش أخلاقي ويتلبس هذا الوصف؟ أم أنه يعرف أنه على النقيض من ذلك ويصر على أن يكذب ويكذب ويكذب حتى يصدقه الناس؟
تاريخ الجيش الإسرائيلي بالأحداث والأرقام منذ تشكيله كعصارة عصابات (ليحي وشتيرن والهاغاناه) التي بدأت تاريخها بالمذابح والمجازر لم يفقد هوية التشكيل التي أصبحت بصمة وهوية لجيش لم يتغير، وما تبعها من تاريخ فهو يتمدد دامياً على ثلاثة أرباع القرن بدءا من مذابح التهجير وتدمير القرى وقتل سكانها مروراً بدير ياسين وبحر البقر والإشراف على صبرا وشاتيلا ومذبحة قانا وحروب غزة وما قتلت من أطفال وإبادة عائلة السموني، أما الإبادة في هذه الحرب المستمرة على قطاع غزة وقتل عشرات الآلاف من النساء والأطفال والمدنيين فتلك رواية يندى لها جبين التاريخ ولم تصل لها لا «داعش» ولا «بوكو حرام».
في زيارة قام بها بن غوريون في خمسينيات القرن الماضي لأحد المواقع العسكرية بعد مذبحة دير ياسين، كان الجنود في القاعدة يتابعون ردود الأفعال الدولية، واشتكى جندي لرئيس الوزراء عن تلك الأصداء فرد بن غوريون، «ليس المهم ما يقوله العالم بل المهم ما يفعله اليهود» هكذا تم تصميم الجيش أن يفعل ما يريد من انتهاكات غير آبه بالعالم مدركاً أن هذا العالم أكثر عجزاً عن لجمه.
لكن في حالة الإنكار الشديد التي تمارسها اسرائيل وجيشها ما يستدعي التفكير بطبيعة العقل الجمعي إذا ما كان سوياً، وهذا مشكوك فيه لأسباب كثيرة لا يتسع لها هذا المقال أو ذكر بعض من جوانبها في مقالات سابقة وكيف يمارس سياسة وخطورة هذا العقل على الإقليم والعالم، وها نحن نرى أحد منتجاته الفادحة، فقد دفع العالم على شفا حرب إقليمية كبرى وها هو يتسبب بعرقلة شريان الاقتصاد العالمي ويتسبب بفضيحة للولايات المتحدة ولكل داعميه ويتسبب بإرباكات في كل العواصم وأزمات في معظم الجامعات وتغيرات كبيرة في النظم السياسية، وتحولت عملية الإبادة لغزة إلى قضية انتخابية داخلية تهدد نظم حكم مستقرة وأولها أنها زعزعت عتبة البيت الأبيض وتهدد بإسدال الستار على الحياة السياسية للرئيس بايدن وطرد الحزب الديمقراطي من الحكم.
كل هذا الحريق العالمي واسرائيل تبدو كالمجنون الذي قام بحرق المنزل ووقف أمامه يدخن سيجارته كأن لا شيء، لا يمكن تفسير الأمر إلا على هذا النحو وحين يقولون له، إنه مختل، يصاب بالدهشة حين يصارحه أحد بحقيقته، وتلك هي حقيقته التي تجسدت على امتداد عقود من السلوك المشوه المصحوب بالقتل والذبح والدمار والدماء فلم يعش الجيش الإسرائيلي بطالة القتل.
اسرائيل ترد بأن الأمم المتحدة تضع نفسها في القائمة السوداء للتاريخ ...! هكذا بكل بساطة، كمن ينفث دخان سيجارته وسط الحريق. فالأمم المتحدة تعني العالم وبرلمانه كل الدول وتمثل كل شعوب الكرة الأرضية بملياراتها التي ترى وتشاهد هذا الموت المنتشر وقطع اللحم المتناثرة والأطفال الذين يتم قتلهم، كل هذا وتريد اسرائيل من كل الكرة الأرضية أن تكذب نفسها وروحها وما تراه بعينها وتبتلع الرواية الإسرائيلية المجنونة.. ما هذا؟
التاريخ لم يبدأ حسابه مع اسرائيل بعد، فما فعلته لا يمكن للعقل البشري أن يمرره لعقود قادمة. ومن علامات العقل غير السوي أنه يرتكب كل هذه الفظائع معتقداً أنه لن تتم محاسبته عليها أو أنه يمكن أن يكون جزءاً من العالم أو جزءاً من الإنسانية التي حاولت بالدم أن تبني منظومتها الأخلاقية لتقوم اسرائيل بهدم كل هذا، فقد باتت تشكل خطراً على البشرية بأن يصبح ما ارتكبته من عاديات الأشياء، أن تفعلها دولة أخرى معتمدة على سابقة الفظائع الإسرائيلية.
لم تعرف اسرائيل بعد ما الذي حدث لها، ولم تر نفسها في المرآة بعد، ولذا لم تشاهد حجم التشوه الذي أصاب شكلها وصورتها، لم تعرف بعد أنها لن تخرج سليمة من هذه الحرب على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدبلوماسية، لم تصدق ما الذي أصابها ... لم تصدق بعد أنها أصبحت «بوكو حرام» وأن زعيمها مجرم ومطلوب للعدالة .. التاريخ لا ينسى ولا يغفر ولا يسامح ... لا يمرر أيضاً