أجادل، وبقوة، أن يوم السابع من أكتوبر يمثل حادثة من صنف لا نظير له على مستوى التاريخ الإنساني. وأدّعي أيضاً، أن منطلق هذه الأطروحة بعيد بقدر ما يمكن له أن يكون عن الانحياز العاطفي أو وقع ذلك اليوم على المستوى الفردي والشخصي. فهذه الفكرة ليست وليدة لحظة ذلك اليوم، بل عام كامل من مراقبة الأثر واختباره الذي أنتجه ذلك السبت على كل مستوى وسياق.
تخبرنا فلسفة التاريخ عن كيفية تحرّكه، كيف يتغيّر ويسير التاريخ، والمسألة باختصار هي جدلية، شد وجذب بين طرفين، صدام مستمر بين فكرتين، جولة للظالم وجولة للمظلوم، وما استمر هذا الصدام استمر التاريخ. وعليه، هنالك أيام نسميها تاريخية، وهي الأيام التي يحقق فيها أحد الطرفين انتصاراً كبيراً يمثل نقلة نوعية في المسار فـ«يغيّر التاريخ» أو«يصنع التاريخ» كما نقول. إلا أني أجادل أن السابع من أكتوبر لا ينتمي إلى هذا الصنف من الأيام، بل هو من صنف فريد، كنت أبحث ولا أزال عن إن كان هنالك نظير وسابقة تاريخية له، ولم أجد. صحيح أن كل ظرف تاريخي حكماً مختلف عن سابقه شكلاً، ولكن السابع من أكتوبر موضوعياً مختلف في النوع والصنف.
من منظور الفيزياء الفلكية، تحكم الأجرام السماوية من نجوم وكواكب وأقمار وكويكبات علاقة نسبية في نسيج الزمان والمكان، كل يدور في فلكه. وهي أيضاً كما في حال النجوم تنفجر، كانفجار شمسنا يوماً من الأيام، وهي كذلك تتصادم وترتطم وتندمج ببعضها، منتجة طاقة لا يمكننا تخيّل مقدارها، وهذه الحوادث مستمرة في الكون كما حوادث تاريخنا الإنساني مستمرة. ولكن، هنالك أحداث كونية فريدة، مختلفة عن هذه الاستمرارية، فهي لا تولّد طاقة هائلة فقط، بل تهز كامل نسيج الكون، كل الزمان وكل المكان يهتزّان، كما في اندماج الثقوب السوداء والانفجارات النجمية الهائلة. وهذه ليست مجرّد أحداث كونية، بل اهتزاز للكون نفسه، وما السابع من أكتوبر سوى انفجار شبيه بهذه الأحداث.
بمعنى، أن هذا اليوم لم يكن حدثاً من أحداث استمرارية التاريخ، كأي من الأحداث الضخمة، من الانتصارات والثورات أو الهزائم الكبرى، بل إنه يوم هزّة نسيج التاريخ الإنساني بذاته. نضحك قائلين إن السنوار والضيف لعبا بإعدادات الكوكب، ولكننا وحين نقول ذلك فنحن نصيب كبد الحقيقة. طوال هذا العام ونحن نعاصر أثر ذلك اليوم من أكتوبر، ونلحظ أنه لم يكن أثراً ضمن قضية وصراع معيّنين أو نطاق جغرافي أو قومي محدد من تاريخ الشعوب، بل إن وقع ارتدادات هذه الهزّة شمل كل التواريخ وكل القضايا وكل الجغرافيا، كل الزمان والمكان.
والسؤال هنا، كيف ولماذا؟ أولاً لأن فلسطين وإسرائيل كل منهما يشكل خلاصة كتلتين تاريخيتين مختلفتين. وبما أن حركة التاريخ عبارة عن صدام مستمر، صغر من صراع أفراد فقبائل فجماعات فأمم فإمبراطوريات، فقد وصل التاريخ إلى أكبر أنماط التصادم عبر الاستعمار والإمبريالية. وهي العملية البشرية الأوسع نطاقاً لاستعباد كتلة بشرية أقوى مادةً لتلك الكتلة الأكبر عدداً عبر نظام استعماري عملاق، امتد من جزر أندونيسيا إلى جبال الأنديز في أميركا اللاتينية. هنا، لم يعد صدام الظالم والمظلوم بين هابيل وقابيل كأفراد ولا كطاغٍ وجماعة كفرعون وموسى كما في قصص الأدبيات الإبراهيمية، بل اتخذ شكله الأكبر نطاقاً على الإطلاق، الكوكب بأكمله.
ولأن فلسطين آخر معاقل النضال ضد الاستعمار الاستيطاني، فهي خلاصة تاريخ الكتلة البشرية المستعمَرة من المظلومين، وإسرائيل درّة المشروع الغربي الاستعماري، خلاصة الكتلة البشرية المستعمِرة من الظالمين، ولذلك فصدامهما يشكل مركز الصراع التاريخي الإنساني، ومن هذه الخلفية كنا ولا نزال نشير إلى فلسطين بالقضية المركزية. وعليه، فإن النضال والصدام مع العدو الصهيوني كانا ولا يزالان صداماً ممثلاً عن المسار التاريخي الأكبر للإنسانية، وكل انتصار فيه انتصار لتاريخ مداه الكوكب كله، وكل انتصار عليه هو انتصار لنخبة من الشعوب الأوروبية البيضاء مداه الكوكب كله. وما الانهيار التام لكل مبدأ أخلاقي كوني، وأولها قيمة الحياة الإنسانية وحرمتها خلال الإبادة الصهيونية الغربية، سوى دليل على ذلك.
لم يكن السابع من أكتوبر انتصاراً ضمن أحداث الشد والجذب في مسار التاريخ، بل إنه وفي الانفجار الذي ولده، لا عبر النجاح العسكري فحسب، بل في حجم العنف الثوري على المستوطنين تحديداً وبشكل خاص، هزّة لكل التاريخ.
وجاء مثبتاً النظرية عبر تطبيقها أن سفك دم الفوقية البيضاء في قلب حيّز ممارستهم للترف، هو المكّون الكيميائي لانفجار العدالة والمساواة البشرية. كان ذلك الانفجار هو كل التاريخ وحكايته ومساره يرتطم ببعضه في يوم واحد، كان التاريخ كله في يوم.
لم تمثّل الهزة في نسيج التاريخ التي أنتجها السابع من أكتوبر، وفجرها العابرون الأوائل لحظة انتصارنا التاريخية، لكنها حتماً جعلت الطريق أقصر مما كان عليه في يوم من الأيام.
وهي قطعاً في مباغتتها وانفجاريتها، وكأنها من العدم، أنتجت صدمة لن ينتجها حتى المسار والصيرورة الطويلة التي ستوصلنا إلى يوم التحرير نفسه. فلم يكن تحرير شعب ما في التاريخ مسألة ليلة وضحاها، بل عملية تاريخية مريرة لتفكيك المستعمرة على دفعات تصل بنا لليوم التاريخي الذي نتلو فيه بيان الاستقلال. ولكن، السابع من أكتوبر وحده، كان ليلة وضحاها، أشبه بالانفجار العظيم، شيئاً لن يتكرر، يوماً من صنف مختلف، والأكيد أنه مهما كان يوم إعلان تحرير فلسطين عظيماً فستبقى هناك حقيقة تاريخية ثابتة وإلى الأبد أن هنالك يوم التحرير وهنالك سبعة أكتوبر.
* كاتب عربي