أطفالها أكاديميون في معركة الحياة والمقاومة، وأنهم أساتذة في الوطنية والانتماء والذود عن الحياض لمن أراد دروساً من المتخاذلين الصامتين المتواطئين، وأشباه الرجال. زينة المرأة الفلسطينية كوفية وشال مطرّز بالعنفوان والصمود، صراخها وبكاؤها زغاريد لأبنائها الشهداء، وتحمل أبناءها مرتين؛ مرة في أحشائها جنيناً وأخرى على كتفها شهيداً. أطفالها يلدون كباراً وقد رضعوا الإقدام والشجاعة لمواجهة الصعاب والمستقبل، ورضعوا الإباء والتمرد على الظلم والعدوان. أطفال غزة لم تنل من عزائمهم أهوال الحرب، ثبتوا أمام شبح التجويع والتعطيش، عاشوا المرض والأوبئة وفقدان الأمن والأمان، وفقد الأهل والأحبة ولم ينكسروا ولم يهنوا في عزتهم وعنفوانهم، وكم من مرّةٍ آثروا على أنفسهم وكان بهم خصاصة وهم تحت الأنقاض، لم يعرفوا الخوف، على الرغم من موت أصدقائهم على مقاعد الدراسة، وكثير منهم ماتوا قبل أن يحصلوا على شهادة ميلادهم.
إذا لم يكن للموت من بد؛ فلنمت من أجل فلسطين. عبارة ردّدها مئات الرجال العائدين إلى الوطن مع خيوط الفجر الأولى، ومع نسائم تشرين الأول/أكتوبر العليلة المقبلة من أرجاء الوطن المحتل ومن شواطئه الحزينة التي تنتظر لقاء الأحبة الميامين، ومن رائحة البرتقال الحزين المنبعث من بيارات يافا. اخترقوا الحواجز والحدود غير آبهين لترسانة المحتلين وأنظمتهم الإلكترونية، حملوا أرواحهم على كفوفهم وكوفياتهم تعلو رؤوسهم الشامخة. طاروا محلقين في فضاء طالما اشتاقوا إليه متلمسين تحقيق صفحة مشرقة وتاريخ استثنائي لشعبنا، وسبقتهم صواريخهم تدك الغلاف وجناة الليل. فكانت الملحمة الكبرى في السابع من أكتوبر 2023 لتشكل فصلاً أسطورياً في تاريخ الصراعات ونضالات الشعوب.
وإذا كانت الحرب لاستكمال أو تحقيق أهداف سياسية، فإن ما يُريد نتنياهو إحرازه عبر المفاوضات والقنوات الدبلوماسية لا يمكن أن يتم تحت النار وعبر فوهات البنادق وقصف الطائرات وقتل الأبرياء والاغتيالات، فالمعركة تبقى دوماً معركة كسر إراداتٍ؛ لذلك جاءت ساعة الحقيقة وأخذ أبطال المقاومة المبادرة لوأد مخططات نتنياهو الرامية لتصفية القضية وحُماتها المقاومين، فكان ما كان وبدأ النزال، فهل حققت دولة الكيان الأهداف السياسية من حربها الإجرامية المتواصلة منذ عام على الشعب الفلسطيني؟
بعد انقضاء عام كامل على عملية طوفان الأقصى والعبور نحو الوطن، وشن دولة الاحتلال حربها النازية الفاشية ضد قطاع غزة، لا تزال رحى المعركة مستمرة وامتد غبارها إلى جبهات اليمن والعراق ولبنان وسوريا، وما زالت صواريخ المقاومة تدك قلب الكيان في تل أبيب وحيفا والقدس وأم الرشراش، وما زالت العمليات النوعية البطولية للمقاومة تضرب وتعمِّق من جراح العدو وكان آخرها وليس أخيرها في يافا وبئر السبع، وما زالت المواجهات تتصاعد في جنين وطولكرم ونابلس، وما زال الدم الفلسطيني شلالٌ والتحق به أخيه الدم اللبناني ليصبحا رافدين في بحر الإجرام الصهيوني والتطهير العرقي ومجازر الإبادة الجماعية التي بلغت أكثر من 4700 مجزرة. في واقع الحال، لم يبق سنتمتر واحد لم يطله القصف البربري الممنهج، فلم يبق حجر على حجر وأُبيدت بلدات ومخيمات وأحياء بأكملها، وهُجِّر قسراً من بقي حياً من أهلها، وتجاوزت أعداد الشهداء 42 ألفاً منهم نحو 17 ألفاً من الأطفال و11 ألفاً من النساء، وعدد الجرحى 97 ألفاً، فضلاً عن ما يزيد على 10 آلاف من المفقودين وآلاف المعتقلين.
لقد طالت الحرب الفاشية كل أحلام الفلسطينيين، فأتت على مدارسهم وجامعاتهم ومراكزهم الثقافية والتراثية والعلمية وأصبح معظمها أثراً بعد عين. ولم تسلم أراضيهم الزراعية ومحاصيلهم من نيران وقذائف المحتل؛ مما اضطر الغزاويون إلى أكل العشب وأوراق الشجر. كما تعرضت منشآتهم الصناعية والإنتاجية إلى الدمار من حمم الدبابات والصواريخ. ولم تبقِ طائرات نتنياهو وغالانت وهاليفي ما يمكن أن ينجي من الموت؛ فدمرت قواتهم الغازية المشافي والمستوصفات والمراكز الصحية، وقتلت واعتقلت الطواقم الطبية والإسعافية. خلال عام مليء بالمآسي والصور والمشاهد التي هزّت العالم بأسره – لكنه لم يتحرك سوى بالتنديد والاستنكار ـ قتلوا كل جوانب الحياة والحياة القادمة لكي يعلن الفلسطينيون الاستسلام ويهجروا وطنهم، غير أن قادة الكيان نسوا أن فلسطين تنتج النقيض الإيجابي دوماً؛ الحياة مقابل الموت، والعلم مقابل الجهل والتخلُّف، والرجولة والشجاعة مقابل الخنوع والجبن، والصمود والثبات مقابل التخاذل والانسحاب، والبناء والأعمار مقابل الخراب والدمار، وعشق الحرية مقابل ظلام السجن والاعتقال، والدم مقابل السيف. لقد نسي الصهاينة أن المرأة الفلسطينية ولّادة للرجولة والرجال، وعنوان للتضحية والفداء وكل واحدة تساوي مئة خنساء، وأن أطفالها أكاديميون في معركة الحياة والمقاومة، وأنهم أساتذة في الوطنية والانتماء والذود عن الحياض لمن أراد دروساً من المتخاذلين الصامتين المتواطئين، وأشباه الرجال.
زينة المرأة الفلسطينية كوفية وشال مطرّز بالعنفوان والصمود، صراخها وبكاؤها زغاريد لأبنائها الشهداء، وتحمل أبناءها مرتين؛ مرة في أحشائها جنيناً وأخرى على كتفها شهيداً. أطفالها يلدون كباراً وقد رضعوا الإقدام والشجاعة لمواجهة الصعاب والمستقبل، ورضعوا الإباء والتمرد على الظلم والعدوان.
أطفال غزة لم تنل من عزائمهم أهوال الحرب، ثبتوا أمام شبح التجويع والتعطيش، عاشوا المرض والأوبئة وفقدان الأمن والأمان، وفقد الأهل والأحبة ولم ينكسروا ولم يهنوا في عزتهم وعنفوانهم، وكم من مرّةٍ آثروا على أنفسهم وكان بهم خصاصة وهم تحت الأنقاض، لم يعرفوا الخوف، على الرغم من موت أصدقائهم على مقاعد الدراسة، وكثير منهم ماتوا قبل أن يحصلوا على شهادة ميلادهم.
مع كل هذه الإبادة وتنوّع أشكالها وصورها لم ولن تنقطع السلالة الفلسطينية وإن شُطبت الكثير من الأسر من سجلات القيد المدني، الفلسطينيون كالأشجار وإن اقتُلعت أو كُسرت أغصانها وسقطت أوراقها؛ فإن جذورها باقية تضرب عميقاً في الأرض عصيةً على الموت. أما رسالة رجال غزة فتقول: لن يتوقف شريان حياتنا وإن صادروا الهواء، وستبقى حياتنا نورا وهّاجا وإن حجبوا الشمس وضوء القمر والنجوم. وسنبقى نبحر في طوفان الأقصى ونحرس الليمون والزعتر، ولن تسقط لنا راية، ولن تنحني لنا قامة، ولن تضعف لنا إرادة، وسيبقى المخيم خزان ثورتنا وملعب أطفالنا، وستبقى بنادقنا مُشرعةً إلى أن يُورق الشجر ويُزهر الحقل وروداً ورياحين، ويُكسرُ القيد ويُسجنُ السجّان، وتعود النوارسُ إلى شواطئنا ويفرحُ الشهداء، وقسماً وعهداً لن يسقط قطاعنا.. ولن تسقط هانويْ الفلسطينية.
*كاتب فلسطيني