يتواصل العدوان الإسرائيلي على لبنان، في مناطق متعددة، كان آخرها عدواناً على الضاحية الجنوبية استهدف مبنيين سكنيين، وسبقه تفجير أجهزة "البايجر". وسط هذا كله، كان الغزّيون يوجّهون رسائل دعم ومحبة ومؤازرة إلى شعب وحزب ومقاتلين كانوا "سنداً عنيداً" لهم.
دعونا نُقرّ ونعترف بأنّنا - الغزّيين - في وقت ما من عمر الحرب، بتنا نتمنى لهذا الكون كله أن يحترق، لو كان هذا الحريق سيطفئ النار في غزة. لكن من ذاق الحرب وعَلِمَها، يعود في لحظة الحقيقة ليقرّ، في نفسه، بأنه لا يتمناها لغيره، فكيف إذا كان ذلك الغير هو من ساند وناصر وتضامن بدمه، وربط استقراره ومستقبله بمصيرنا.
سيطول الحديث عن شرح المفاعيل التي قد تخالط الموقف الفلسطيني، والموقف الغزّي تحديداً، بشأن لبنان، وحزب الله على وجه التحديد. سأكتفي بالقول إنّنا جزء من الوسط العربي، الذي مورست عليه، طوال عشرة أعوام من الحرب السوريّة، أعنف مستويات الاستقطاب والتغريب والحرب على الوعي والإدراك. ونحن لا نتحدث عن قنوات إخبارية أو صفحات مؤثّرة في مواقع التواصل الاجتماعي، وإنما عن علماء ومفكرين وكتب ومنشورات وساعات بثّ طويلة، وصور مختلَقة وأخرى حقيقية. ذلك كله لم يذهب عبثاً وهباءً.
لكن، ما الذي صنعته الحرب الحالية؟ لقد شكّل "طوفان الأقصى" أكبر اختبار للشعارات الكبيرة والنيات التي كانت دائماً محلّ اتهام وتشكيك. ونحن، الذين بذلنا الدم، وجرّبنا آلة القتل الإسرائيلية وخبرناها، سنكون أدرى من أي أحد بما يعنيه أن يربط أحدٌ، حزباً كان أو دولة أو جماعة، مصيره بمصيرنا. ما يحدث، الآن، هو هدم لكلّ السردية الإسرائيلية الخليجية الأميركية، التي استوطنت العقول. إنه وقت المراجعات الكبرى؛ الوقت الذي يستطيع فيه الجميع، من غير الأبواق والمأجورين طبعاً، التمييز بين العدوّ والصديق.
وحتى أكون منصفاً وموضوعياً أكثر، جلتُ، خلال اليومين الماضيين، في شوارع شماليّ قطاع غزة، وأجريت، بحكم ضرورة العمل، أكثر من 20 مقابلة مُصوَّرة مع عيّنات عشوائية من السكان، في الشوارع وعند البسطات وفي المستشفى. طرحتُ على كل من التقيته سؤالاً من أربع كلمات: أريد رسالة إلى لبنان؟ حصلت على عشرين رسالة تضامن، وليس تضامناً إنشائياً، وإنما ذلك الحديث البسيط الصادق والمتعاطف، والذي يُشعرك بأن العيون التي أوذيت هي عيوننا، وأن الأكفّ التي بُترت هي أكفّنا. قال محمود المصري: "كل المحبة، كل الإجلال لأهلنا في لبنان، لمقاومي لبنان الأبطال. والله نتوجّع لجراحكم، ونكبر بتضحياتكم. عشنا أسوأ أيام الحرب بسبب ما حدث خلال اليومين الماضيين (...) إنت متخيل شو بصير، شعب كامل وبلد بيحمل روحه على كفه ليدافع عنك، وبيدفع دماء ومستقبل خيرة أبنائه لأجلنا".
أما زكريا عبد العزيز فقال للميادين نت: "رحم الله شهداءهم. بتعرف شو حسّيت للحظة، إنو سندنا. خفت إنو الجدار إلّي ساندين عليه ظهرنا انهدّ، لكن الحمد لله إنو حلفاءنا وأصدقاءنا وشركاء دمنا، صبرهم وعنادهم أكبر من خوفنا عليهم (...) أنا بحثت لقيت إنهم اغتالوا السيد عباس الموسوي، وارتكبوا مجازر كبرى بحقهم طوال سنوات الصراع وما ضعفوا، رح يتجاوزا المحنة والاختبار ورح يطلعوا أقوى".
أما الفارق بين المقابلات كلها، فهو ما قاله تيسير هزاع، الذي تشير ملامحه إلى أنه تجاوز العقد الخامس من عمره. يقول الرجل لـلميادين نت: "يمكن ملاحظ من هيئتي وشكلي إنّي سلفي من جمعية الكتاب والسنّة، لكن والله يا أخي دعوت الله يوم أمس أن يرحم شهداءهم ويدخلهم من أبواب الجنة كلها، وأن يشفي جرحاهم ويكتب لهم أجر الجهاد، وأن تكون عيونهم وأكفّهم سبقتهم إلى الجنة. هذه الحرب غيّرت مفاهيم ومسلّمات كثيرة. هذه الحرب كشفت وفضحت أموراً كثيرة، ولسّا يا ما رح تفضح وتكشف".
في مواقع التواصل، يتضاءل حضور الأصوات الشواذّ. تعلو العاطفة المواقف المشفوعة بمشاعر الإخاء والمصير المشترك. يختصر أحدهم الموقف مستذكراً عبارة قالها الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في أحد خطاباته التي ألقاها مطلع الانتفاضة الثانية، عام 2000: "نحن في المقاومة الإسلامية معكم، لن نترككم، ويمكنكم في الشدائد أن تراهنوا علينا، وكفى". ويضيف: "صدقت الوعد يا أبا هادي. ما خاب الرهان عليكم. مرّت أعوام على هذا الخطاب، وجاء أكبر شدائدنا، وشاركتمونا التضحية حينما خذلنا الجميع، وتآمر علينا الجميع".