لم يكن ضرورياً انتظار تصريح رئيس الحكومة الإسرائيلية، غداة عملية «طوفان الأقصى»، والذي أعلن فيه أن «خريطة جديدة للشرق الأوسط» ستنبثق بعد الحرب على غزة. لم يكن، أيضاً، من حاجة إلى التذكير بالخرائط التي عرضها نتنياهو أثناء إلقاء كلمته في الدورة الـ78 للجمعية العامة للأمم المتحدةفي أواخر أيلول 2023، هذا فضلاً عن الشعار الشهير: «حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل». ويقع في السياق نفسه التذكير بمشاريع واشنطن المتكررة في الشكل، والموحدة في الجوهر: مشروع «الشرق الأوسط الواسع» (بوش الابن)، مشروع «صفقة القرن» (ترامب)، مشروع «التطبيع» والاعتراف بالاغتصاب الصهيوني (الإدارات الأميركية الأخيرة بشكل خاص)... برهنت تلك المشاريع وسواها، بشكل شديد الوضوح، أن زرع الكيان الصهيوني في فلسطين، قد كان، وهو لا يزال، وسيبقى، إحدى أهم أدوات الغرب الاستعماري لبسط وتوطيد سيطرته شبه الكاملة على المنطقة الممتدة من الباكستان إلى موريتانيا! في خدمة هذا الهدف، سُخِّرت الأمم المتحدة (اعترافاً أو رفضاً وتعطيلاً). كذلك سُخّرت كل المؤسسات والوكالات المنبثقة عنها. وقبل ذلك، وفي نطاق المشروع نفسه، كان «وعد بلفور» وسياسة دولة الانتداب الأساسية (بريطانيا العظمى). كان أيضاً «حلف بغداد» الذي استقته واشنطن، وكان العدوان الثلاثي على مصر 1956، ثم حرب 1967، وكان إجهاض «حرب العبور» والتحرير عبر أنور السادات عام 1973.
يندرج ضمن هذا السياق أيضاً، غزو لبنان عام 1982 بمباركة ومشاركة واشنطن وقوات «الأطلسي». كانت أيضاً الاتفاقيات الثنائية في واشنطن ومدريد وأوسلو. إلى هذا المسار ينتمي أيضاً غزو أفغانستان والعراق (2002 - 2003)، استناداً إلى نظريات «الحروب الوقائية» التي اعتمدها بوش الابن و«المحافظون الجدد». كذلك الأمر بالنسبة إلى استغلال انتفاضات «الربيع العربي» وصولاً إلى «اتفاقيات التطبيع الإبراهيمية».
وقبل هذه ومعها، تعزّزت مؤامرات تفتيت عدد متزايد من الدول العربية بحروب وانقسامات لا تنتهي: سوريا والعراق وليبيا والسودان وفلسطين... يضاف إلى ذلك، على الصعيد الفلسطيني: تغذية الانقسام بين غزة ورام الله، وإغراق الضفة الغربية بالمستوطنات، والتنكر لاتفاقية أوسلو رغم ما انطوت عليه من تنازلات جسيمة عزَّزها «الوسيط» الأميركي بالاعتراف بضم القدس كعاصمة موحَّدة للكيان الصهيوني، وبشرعية الاستيطان، و«يهودية» الدولة وبضم الجولان السوري المحتل ..
ما تقدّم ذكره، وسواه، يؤكد أن المعركة الضارية والهمجية التي يخُوضها الكيان الصهيوني والقوى الاستعمارية الداعمة له بقيادة واشنطن، إنما تستهدف احتلال كل فلسطين من قبل الصهاينة وتصفية قضية وحقوق الشعب الفلسطيني بإبادته وتشريده مرة جديدة.
هذه المعركة تقع أيضاً في نطاق مخطط قديم جديد لإحكام وترسيخ السيطرة الاستعمارية على منطقة الشرق الأوسط بكل ثرواتها وموقعها الإستراتيجي ومصائر شعوبها جميعاً. مخطط واشنطن هذا يشكل، بدوره، جزءاً من مشروع كوني للتوسع والسيطرة والنهب. وهو بدأ، خصوصاً، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بشكل صاخب وإجرامي واستعراضي عبر قنبلتي ناكازاكي وهيروشيما. وهو تعاظم واستشرس بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991.
هذا المسار، في حلقاته الفلسطينية والإقليمية والدولية، ليس سراً يجري اكتشافه اليوم. إنه استحضار لمجموعة مترابطة من الحقائق والوقائع المهمة، والتي ينظمها سياق متكامل أفرز تياراً، بقيادة واشنطن، هو الأهم والأكثر سطوة وتأثيراً في العالم. انتهت مرحلة «الحرب الباردة» بانهيار المنظومة الاشتراكية. استأثرت واشنطن وتسيّدت وتفرّدت وبالغت. العالم لم يصبح أفضل إلا بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية وأتباعها وحلفائها. استمرت الصراعات وتفاقمت الأزمات بسبب تعاظم نزعة العدوان والسيطرة والاستغلال والنهب. تحركت كتل كبرى متضررة، دولاً وشعوباً، في الحقول كافة: السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، بهدف الحد من الاستئثار الأميركي، ولإقامة توازن دولي على قواعد جديدة من الشراكة والتعدد والتنافس. منطقة الشرق الأوسط كانت أبرز الساحات التي شهدت معارك ضارية وما تزال. حاول الكيان الصهيوني أن يكون المستفيد الأكبر من تحولات ما بعد الانهيار السوفياتي. تركَّزت جهود قادته على أمرين: استكمال احتلال وإدارة كل الجغرافيا الفلسطينية، من جهة، ولعب دور إقليمي محوري وقيادي عبَّر عنه شيمون في كتابه «الشرق الأوسط الجديد» (صدر في أوائل التسعينيات)، من جهة ثانية. في خدمة مخططات السيطرة الأميركية الصهيونية كان غزو العراق واحتلاله، وكان عدوان تموز على لبنان عام 2006، وكان إطلاق «داعش» ودولتها: أداة للقتل والتفرقة وذريعة لإعادة الاحتلال واستمراره في العراق وسوريا... يتصل بذلك محاولة إضعاف روسيا ومحاصرتها وتفكيكها، والسعي إلى تحجيم الصين ومنعها من استثمار نجاحاتها الاقتصادية الهائلة في الحقل السياسي والجيوستراتيجي: منفردة أو متشكلة ضمن محور «البريكس».
في مجرى هذا الصراع، انكشفت واشنطن، أكثر من أي وقت مضى، قوة احتلال ونهب وتفتيت. وهي، على صعيد منطقة الشرق، لم تتردد في دعم وتشجيع كل سياسات ومخططات إسرائيل لتصفية كل حقوق الشعب الفلسطيني.
لهذا الغرض تغطي وتغذي «حرب الإبادة» ضد غزة والضفّة الغربية في عملية إجرامية لا مثيل لها في التاريخ المعاصر. برز في السياق النفوذ الهائل الذي تتمتع به الحركة الصهيونية الدولية في نطاق منظومة النهب والاستغلال الإمبريالية، بسبب إمكاناتها الضخمة بما فيها المشروع الصهيوني في فلسطين.
هل يترك هذا المشهد متسعاً للتردد أو التأخر في اختيار الجهة التي ستكون منها ومعها حركات التحرر والتقدم والتحرير في العالم أجمع!
* كاتب وسياسي لبناني