أظهرت القيادات السياسية والأمنية الإسرائيلية في الأيام الأخيرة توجهاً نحو توسيع العمليات العسكرية في الشمال، إذ أكد الإعلام الإسرائيلي أن المناقشات التي جرت مؤخراً في الكرياه جعلت الكيان في أقرب لحظة لبدء حرب شاملة مع لبنان منذ انطلاق جبهة الإسناد يوم 8 أكتوبر من العام الماضي؛ فبعدما خضع الكيان الإسرائيلي لقواعد الاشتباك التي كرستها المقاومة الإسلامية على الحدود وانصاع مرغماً لتحمل تبعات ونتائج عمليات المقاومة نتيجة عدم تمكنه عبر مسار هجماته ومحاولاته لإرساء قواعد اشتباك تناسبه من دون أن ننسى ضغوط حلفائه من أجل فصل الجبهة اللبنانية عن جبهة قطاع غزة مع ما عناه الأمر من تهجير عشرات الآلاف من مستوطناته الشمالية، ومن دون أن ننسى أيضاً الكلفة البشرية واللوجستية التي تحمّلها جيشه، عاد الكيان الإسرائيلي ليمارس تهديده باستخدام القوة العسكرية وتحويل جهده العسكري إلى الشمال، غير أن اختلافاً جذرياً قد فرض نفسه على واقع الكيان منذ انسحابه من لبنان عام 2000، وأمكن لمسه بطريقة واضحة بعد طوفان الأقصى وتداعيات جبهات الإسناد عليه.
إذ إن التفوق الإستراتيجي والعسكري النوعي الذي كان سبباً لنجاحه في فترة صراعه مع محيطه الإقليمي تغيّر وبات يفترض إعادة قراءة المشهد لديه بعيداً عن ضوضاء طائراته وتصريحات قادته المُستعارة من قاموس تجارب حروبه الخاطفة مع الدول العربية أو اجتياحاته المتكررة لدول الجوار، فإمكانية القيام بحملات عسكرية خاطفة تعتمد على المباغتة وعلى تفوقه الجوي وتحرك قواته السريع والمباغت، إضافة إلى تماسك جبهته الداخلية وتكافل الاتجاهات السياسية فيه، لم تعد تُصرف في ميزان أدوات قوته وظروفه الحالية، وكذلك في معادلات الردع القائمة بينه وبين المقاومة في لبنان.
بعد نحو سنة كاملة من العدوان على غزة، لم يتمكن الكيان من تحقيق أهداف كانت تعتبر في الماضي متواضعة بالنسبة إليه، إذ أثبتت المقاومة في غزة أن صمودها في الميدان لا يعني جعل ثمن مواجهتها مكلفاً فقط، إنما يتخطى هذه المعادلة ليهدم أسس التفوق الإستراتيجي للجيش الإسرائيلي من خلال إظهار فشل تقديراته التي دللت عليها وثيقة جيشه عام 2015، وخصوصاً لناحية قدرته على حسم معاركه بسرعة وتقليص الأضرار في جبهته الداخلية، إضافة إلى وضع العراقيل أمام تسليح أعدائه، ومن دون أن ننسى رؤيته لإمكانياته في مجال شن الحروب الوقائية وتفعيل القدرات الاستخبارية الضرورية لإحباط مخططات أعدائه.
وإذا أضفنا إلى هذا الواقع ما سببته جبهات الإسناد لقدرات الكيان من ضرر إضافي ساعد في تأكيد محدوديته في مواجهة نموذج من التهديدات المتعددة الأطراف التي تختلف في حراكها عن الجيوش التي واجهها لناحية اعتماد أساليب هجينة لا تلتزم أسس الحروب التقليدية، من دون أن ننسى فقدانه عامل المفاجأة نتيجة الجاهزية المطلقة للمقاومة على الحدود، ومن دون أن ننسى أيضاً أنها هي التي بادرت إلى فتح هذه الجبهة، يصبح من الضروري الإشارة إلى التعقيدات التي قد تحيط بآليات صنع القرار على المستوى السياسي الإسرائيلي. في هذا الإطار، تجلى طوال الفترة السابقة التردد الإسرائيلي وانعدام الخيارات في مواجهة جبهات الإسناد، وخصوصاً على جبهته الشمالية.
من خلال مراقبة السلوك الإسرائيلي الذي اعتمد في مواجهة حزب الله طيلة الفترة الماضية على محاولة مراكمة نتائج بعض الضربات التكتيكية ومحاولة تسييلها في إطار من الإنجازات الإستراتيجية، ولم يتخطَها ليصل إلى مرحلة الحرب المفتوحة، يصبح من الضروري البحث عن مرتكزات قرار تنفيذ العمل الأمني الأخير الذي تمثل في تفجير نوع معين من أجهزة الاتصالات بطريقة سيبرانية ومدى ملاءمته لواقع الكيان وقدراته، فالجهد الإسرائيلي الحالي لتحييد حزب الله لم يكن مرتبطاً بواقع معين فرضه الميدان في الأيام الأخيرة بما استدعى هذا العمل الأمني، إنما يعود إلى أول أيام الحرب، حيث توالت التهديدات الإسرائيلية وترافقت مع جولات مكثفة لمبعوثين غربيين وضعوا لأنفسهم هدفاً يتمثل في فصل الجبهة اللبنانية عن جبهة غزة ومحاولة إرساء اتفاق يخفف من آثار قدرات المقاومة على الأمن والردع الإسرائيليين.
استطاع الكيان الإسرائيلي في هجومه الأمني الأخير أن يوقع عدداً كبيراً من الإصابات، وحاول الإيحاء، إضافة إلى محاولته إشاعة جو من الإرباك، بأن هذا العمل سيساعد في إعادة ترميم ردعه من خلال ادعاء نجاحه في الحد من قدرات عمل المقاومة وجعلها تتهيب تحضيراته لمعركة مفتوحة في جنوب لبنان.
وفي هذا الإطار، يفترض الإشارة إلى أن التقنية التي استخدمها لن تكون فاعلة إلا لمرة واحدة على الأكثر. وحتى لو صحَّت المعلومات عن أن الموساد نجح في إدخال شحنة من الأجهزة المفخخة في الفترة الأخيرة، فإن قيامه بتفجيرها سيجعل المقاومة تتحسّب أكثر لكيفية تعاطيها مع شبكات اتصالاتها في المرحلة المقبلة.
من ناحية أخرى، تبرز عدة تساؤلات حول توقيت قيامه بتفجير هذه الأجهزة، إذ إن تصريحات قادته باقتراب لحظة الحسم في لبنان كانت تفترض، وفق المنطق العسكري، تنفيذها عند لحظة انطلاق الحرب المفتوحة حتى تستطيع الاستفادة من مفاعيلها على أرض المعركة.
وبناء عليه، يمكن القول إن عدم اقتران هذا العمل بخطة هجومية برية لا يخرجه عن سياق تحقيق هدفين يتعلقان بمحاولة وقف جبهة الإسناد اللبنانية واستعادة جزء من الردع المفقود، ولا يتعداهما إلى مرحلة إطلاق حرب واسعة.
وفي هذا الإطار، وعلى الرغم من الضوضاء العالي الذي أحدثه هذا العمل، معطوفاً على الغارات الكثيفة التي ينفذها الكيان في الآونة الأخيرة، تبقى آليات صنع القرار الإسرائيلي مقيدة بظروف لم يعتد مواجهتها سابقاً، فالواقع الحالي لا يدلل على إحساس المستويين الأمني والسياسي الإسرائيليين بفائض من القوة التي من الممكن استثمارها في الميدان، إنما يدلل على تحرك يعتبرانه إلزامياً أو ضرورياً من أجل الحفاظ على الكيان.
وبالتالي، ستسيطر سمات الضعف والتفكك على آليات صنع القرار الإسرائيلي نتيجة فقدان اليقين بالقدرة على التنفيذ، بما قد يؤدي إلى تحركات غير مضمونة النتائج مع ما يعنيه هذا الواقع من انعكاسات سلبية على مرتكزات ردعه.
وإذا انطلقنا من تقدير الأهداف التي وضعها نتنياهو في بداية عدوانه على غزة من ناحية تحول الإصرار على تحقيقها إلى سبب لاستنزاف جيشه وجبهته الداخلية، من دون أن ننسى تأثير هذا الفشل في الواقع السياسي المنقسم عمودياً في الكيان، وبالتالي أسس الردع الاستراتيجي الذي يسعى إليه، فإن اتخاذ قرار بالتحول نحو التصعيد على جبهات الإسناد، والجبهة اللبنانية بالتحديد، سيترك أثراً سلبياً مضاعفاً، إذ إن عدم التمكن من تفكيك شيفرة المقاومة لناحية عديدها ومقدراتها وتماسك بيئتها الحاضنة، من دون أن نهمل تاريخها في مواجهته وما أظهرته من قدرة على تخطي آثار العمل الأمني الأخير الذي تعرضت له بالتوازي مع عدم تمكنه من تسييل استعراضاته الجوية واستهدافاته الأمنية في حساب الحسم والفاعلية قد يفتح الباب لتلقي هزيمة تتخطى حدود ساحات القتال لتؤسس لواقع استراتيجي يهدم تلك الأسس التي عمل على بنائها منذ نشأته.
* كاتب وأستاذ جامعي لبناني