في سنة ١٩٩٧ اختطفت فرنسا كارلوس من الخرطوم عاصمة السودان، بعد ساعات من دخوله لإحدى مستشفياتها بهدف العلاج.. وخلال وجودي هناك للدفاع عن ذلك الثائر العالمي، الذي كان يمثل امام محاكمها بتهمة القيام بأعمال ارهابية على الارض الفرنسية، كتبت يومها الصحف هناك تفاصيل الصفقة التي تمّ بموجبها تسليم كارلوس، وهي على شكل مثلث متساوي الأضلاع، يبدأ من النقطة الأعلى في المثلث (تسليم كارلوس)، ويتدرّج تباعاً.
الضلع الأول تعهّد فرنسي بالعمل لدى الإدارة الأميركية لرفع اسم السودان من لائحة الإرهاب الدولي.
الضلع الثاني تزويد السودان بمحفزات اقتصادية كبرى من أجل بنية تحتية متطورة.
الضلع الثالث تزويد السودان بخارطة لمواقع التمرد في الجنوب الذي كان يقوده آنذاك الجنرال «قرنق» عبر الأقمار الصناعية.
كان السودان منذ عقود يعاني من مشاكل سياسية واقتصادية وتنموية كبيرة، بالرغم من ثرواته الطبيعية والمائية والزراعية الهائلة. لكنه وبسبب موقعه الجيو استراتيجي على البحر الأحمر المتصل بالبحر المتوسط وبالمحيط الهندي أيضاً، عبر دولة جيبوتي، فقد كانت العين الإسرائيلية عليه مفتوحة ليل نهار.
ـ وفي حين كانت عين فرنسا على كارلوس، كانت عين الكيان الصهيوني على الدور المتميّز الذي لعبه شعب السودان وقواه الحية بدعم قضية الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، وخاصة تلك المتمثلة بحركة حماس في غزة، حيث استهدفت الطائرات الصهيونية عدة مرات، بواخر محملة بالسلاح للمقاومة، كانت في البحر الأحمر في طريقها الى غزة.
ـ التنسيق المخابراتي والعملاني بين فرنسا و»إسرائيل» أوقع الحَمَلَ العربي في حبائل الثعلب الأوروبي. انطلت الخديعة على القيادة السودانية، وهكذا فإنّ الذاكرة العربية مع الاستعمار الأوروبي ومكائده منذ الحرب العالمية الأولى قد دفنت في بئر النسيان.
وفي ثنايا هذه المكائد والمؤامرات، هو ما وصفته الروائية العراقية المميّزة أنعام كج جي في روايتها «النبيذة»: «هكذا هي لعبة الأمم وهناك دائماً خياطون جاهزون يمسكون الدبابيس بين أسنانهم ويرسمون بصابونة ناشفة خطوطاً على القماش، ويأخذون المقصات ويفصلون الخرائط حسب المقاس، الأكمام والياقة لك، والصدر والحواشي لي، السعودية لكم والعراق لنا، أبيض إلك.. أسود إلي».
وهنا تعود بنا الذاكرة الى ما سبق وكتبه «تشرشل» الى الرئيس «روزفلت» عقب الحرب العالمية الثانية: «اشكركم جزيل الشكر على تأكيداتكم الخاصة بعدم التطلع الى حقولنا في ايران والعراق، وَدَعْني أعاملكم بالمثل فأعطيكم أوفى تأكيد بأن ليس لدينا أيّ نية لإقحام أنفسنا في مصالحكم في المملكة العربية السعودية».
ـ كارلوس في السجن في فرنسا يقضي زوراً عقوبة مؤبّدة، والسودان ينتظر الوعود الحارة التي سرعان ما تبخرت لتتجمّع غيوماً باردة، وأمطاراً هاطلة في أروقة مجلس الأمن، حاملة المصادقة على تقسيم السودان ونشوء دولة في جنوبه. كان من أول قرارات تلك الدولة، تلك العلاقة المميّزة مع الكيان الصهيوني، لدرجة انّ هذا الكيان قد فاخر بأنه كان وراء فكرة التقسسيم، وانه كان صاحب اليد الطولى في إنشاء دولة جنوب السودان.
بالطبع لم يُرفع اسم السودان من لائحة الدول «الراعية للإرهاب»، ولم تُرفع العقوبات عنه، وما لم يعط للسودان من إحداثيات ضدّ التمرّد في الجنوب، أعطي لدولة جنوب السودان سلاحاً «إسرائيلياً» للجيش والشرطة وحتى للقبائل الجنوب – سوادنية.
طبعاً لا ينفرد السودان العزيز عن غيره من بلاد العرب من حيث طعم المعاناة المقيمة في أهله ومجتمعه، بل يشترك معها بنفس المواجع السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية. كلها آثار واحدة لعميلة التفكك الجارية في الوطن العربي بفعل الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي والمشاريع الخاصة والحروب البينية.
ـ ومن طبائع الأمور للأسف، أن يلجأ السجين الى السجَّان لفك أسره، أو أن تُناجي الضحية الجلادَ لرفع العذاب عنها. هكذا فعلت القيادة السودانية اليوم، فتوجهت الى الإدارة الأميركية طالبة رفع الحصار وبعض المساعدات، فكان جوابها أن طلب الغفران يقدّم الى الديَّان الإسرائيلي الذي بيده وَحدَه مفاتيح السجن.
وهكذا، فقد فتح رئيس المجلس الانتقالي في السودان عبد الفتاح البرهان ذراعيه للتطبيع مع الكيان الصهيوني، علّ هذا التطبيع يعطيه تذكرة سفر الى واشنطن أو يفتح له الباب في البيت الأبيض.
بعد عشر سنوات من تسليم كارلوس لفرنسا، استضفنا في دار الندوة في بيروت وزير خارجية السودان ونائب الرئيس الأسبق السيد مصطفى عثمان. وفي لقاء مفتوح حول ظروف السودان والتحديات التي تواجهه، بادرته بالقول: «انّ السودان العزيز يعيش ظروفاً صعبة جراء الحصار والانفصال والانقسام، وليس في ثقافتي او من شيمي كعربي مسلم ان أهاجم بلداً عربياً يمرّ بظروف صعبة، ولكن هل لي أن أسالك عن الثمن الذي قبضتموه جراء تسليم صديق العرب وفلسطين الى السلطات الفرنسية».
تنهّد ذلك الرجل، وقال بعد صمت مسموع: «كان ذلك خطأ، بل كان خطيئة».
وفي يقيني انّ مشروع التطبيع مع الكيان الغاصب لن يمرّ كما يتمنّى له المروِّجون، ولنا في وقفات الشعوب في مصر ولبنان وفلسطين والمغرب العربي والاردن وسورية، وتحديداً في السودان حيث قواه الحية والنظيفة تهتف لا للتطبيع، وفي كلّ بلد ينطق شعبه بالضاد، قولة هيهات والتطبيع.
ورغم ما يطفو على سطح بحر الأحداث من رغوة الارتهان للمشروع الصهيو – استعماري في المنطقة ومن قصر النظر عند بعض الحكام، وأتباعهم من الأقلام المأجورة نقول: كم سيطول الوقت ليقول عبد الفتاح البرهان لقد كان التطبيع خطأ، بل خطيئة.