توعّد حزب الله بالرد القوي على الاعتداء الدموي على عناصره عبر تفجير آلاف أجهزة الاستقبال الداخلي المشفّر من طراز «بايجر»، التي يحملونها. وقد تبين أن هذه الأجهزة كانت في الواقع قنابل موقوتة صغيرة وفعّالة أدت عند تفعيلها مساء الثلاثاء الماضي، إلى جرح حوالي 2800 شخص واستشهاد 12 شخصا، بينهم طفلان. وسارع الحزب إلى التأكيد بأن الهدف الفعلي للعدوان الإسرائيلي الوحشي، وهو فك الارتباط بين غزة ولبنان، لن يتحقق، مؤكّدا مواصلة «النصرة والتأييد والدعم للمقاومة الفلسطينية الباسلة».
أثارت العملية الإسرائيلية ردود فعل قوية في إسرائيل وفي لبنان، وفي العالم بأسره، واعتبرها البعض «أكبر عملية أمنية في تاريخ الصراع»، في إشارة إلى طابعها الاستخباراتي الأمني، الذي يختلف عن العمليات العسكرية التقليدية. وفي التقارير والتحليلات الإسرائيلية عن العملية، جرت محاولة لتفادي الحديث عن مسؤولية الدولة الصهيونية عن هذه الجريمة، امتثالا لأوامر مشددة من الرقابة العسكرية. وركّز المحللون من العسكر السابقين على أن الضربة لحزب الله كانت قوية وشلت لأسبوعين على الأقل قدرته على الرد، وهو، في رأيهم، مضطر إلى إجراء تحقيق في ما حدث، والقيام بفحص شامل لسد الثغرات المحتمل وجودها في منظومته الأمنية والعسكرية، قبل القيام بأي هجوم كبير، الذي، كما أكّدوا جميعا، آت لا محالة وأنه سيكون الأقوى منذ بداية المواجهات العسكرية في أكتوبر الماضي.
الاتجاه العام في إسرائيل هو التصعيد على الجبهة اللبنانية. لكن على الرغم من تزايد المطالبة بالحرب الشاملة، فإن القيادة الإسرائيلية تفضل تفاديها
ثورة الغضب في لبنان وفي القاعدة الشعبية لحزب الله بشكل خاص، كبيرة، وتتعالى المطالب برد صاعق وصاخب، يتناسب وحتى يفوق حجم عدوان السايبر الإسرائيلي الفتاك. ولكن يبدو أن الحزب لن يرد بسرعة معتمدا على قاعدة أنه لا يخضع للانفعالات، وسيعمل على فهم واستيعاب ما جرى قبل اتخاذ الخطوة المقبلة، التي قد تكون مختلفة هذه المرة، بعد التأكّد من أن الهجوم الإسرائيلي أصاب المدنيين أيضا.
الزر الأحمر
فور نشر الأخبار الأولية عن انفجار أجهزة الاستقبال، على أطراف ووجوه وعيون وأجساد عناصر حزب الله، سارع المحللون العسكريون الإسرائيليون إلى التساؤل حول منطقة العملية، وكان جواب بعضهم بأنها تمهيد لهجوم عسكري واسع على لبنان، بادعاء أن تعطيل شبكة الاتصال يسهّل الهجوم ويضعف إمكانيات التصدي له. وذهب الكثيرون إلى القول بأن العملية تكتيكية وليس لها أثر استراتيجي إن لم تكن جزءا من حملة أوسع وأضخم، وارتفعت أصوات تدعو إلى استغلال «الفرصة التي لن تتكرر» واجتياح لبنان وشن الحرب. تعتبر العملية الإرهابية الإسرائيلية من عمليات «الزر الأحمر»، وهي خطط أمنية وعسكرية جاهزة ومهيأة للتنفيذ السريع بمجرد ضغط على الزر. ومن المرجّح أن الإعداد المسبق لتفجير أجهزة الاستقبال جري منذ أشهر، وليس وليد الأيام أو الأسابيع الأخيرة. هذه أداة قتالية وحشية أعدتها إسرائيل لاستعمالها عند الحاجة والضرورة. ولا يمكن استبعاد ما جرى تداوله هنا وهناك من أن «السر» كاد ينفضح بعد تساؤلات بعض عناصر حزب الله عن الأمن والأمان في استخدم أجهزة «البايجر». من المؤكّد أن إسرائيل كانت ستفجّر الأجهزة في موعد وسياق ما، لكن يبدو أنها «اضطرت» إلى الاستعجال في تفجيرها قبل انفضاح سرها. ومع أن تفجيرات الأجهزة لم تجر في الموعد والسياق المخطط لهما سلفا، إلا أن إسرائيل سارعت إلى دمجها وإلى لملمة تداعياتها في مسار الاستراتيجية الجديدة في التصعيد ضد حزب الله، وفي نقل مركز ثقل القتال من غزة إلى الحدود اللبنانية.
نقطة تحوّل
قرر الكابينيت الأمني الإسرائيلي فجر الثلاثاء الماضي إضافة هدف «إعادة النازحين إلى بيوتهم في الشمال، ومواصلة العمل لتحقيق هذا الهدف» إلى غايات الحرب الرسمية، التي اقتصرت إلى الآن على ما يخص قطاع غزة. من الناحية العملية، ليس هذا هدفا جديدا، فهو ما سعت إليه إسرائيل طيلة الوقت ولم تستطع تحقيقه. لكن تحويله إلى هدف رسمي هو إيذان بنقل الثقل من غزة الى الحدود اللبنانية، مع الدفع بقوات وتجهيزات عسكرية كبيرة إلى هذه الجبهة. سبق قرار الكابينيت تصريحات تصعيدية من قيادات أمنية وسياسية إسرائيلية، لعل أهمها ما تحدث به رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي يحتفظ بمفتاح اتخاذ القرار السياسي وبأدوات فرضه على المستوى العسكري. ومما قاله نتنياهو بأن «إسرائيل ملتزمة بتغيير الوضع على الحدود اللبنانية، بما يسمح بعودة النازحين الى بيوتهم لينعموا بالأمن وبالشعور بالأمان»، وتوعّد كذلك بسحق حزب الله وحتى بتغيير مكانته في لبنان. وفي ظل رفض الحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو لصفقة تبادل ولوقف إطلاق النار في غزة، وتبعا لإحجامها عن وضع سقف زمني لحرب الإبادة، ولأن حزب الله يصر ويتمسك بإبقاء جبهة الإسناد مفتوحة طالما الحرب على غزة مستمرة، فإن إسرائيل تتجه نحو التركيز على حل قضية النازحين عن مستوطنات الجليل الأعلى بالوسائل الدبلوماسية، الآخذة في الاضمحلال، أو بالوسائل الحربية، التي ترجح كفّها يوما بعد يوم، أو بمزيج ما بينهما. وفقا للتقديرات المتداولة إسرائيليا لحجم ولقدرات الجيش الإسرائيلي، فهو غير مؤهّل للقتال بكامل القوّة على جبهتين متزامنتين. وتعتمد الاستراتيجية العسكرية لهذا الجيش على حسم المعركة أو الاقتراب من الحسم على جبهة للانتقال بعدها إلى الجبهة الثانية، مع الإبقاء على قوات صغيرة في الأولى. ويبدو أن القيادة العسكرية هي التي تصر وتدفع بهذا الاتجاه، وتطرح «تجميد» الحال في غزة والتوصل الى صفقة وهدنة مؤقتة، والاتجاه شمالا لحسم الأمور هناك بالضغط على حزب الله عسكريا وسياسيا. من الناحية العملية، نقلت إسرائيل قوات كبيرة إلى الحدود اللبنانية، وتدعي قيادة الجيش الإسرائيلي أنّها أنهت استعداداتها لتنفيذ أي قرار حكومي على هذه الجبهة. هذا لا يعني أن الحرب وشيكة، لكنّه دليل على أن الاتجاه هو المزيد من التصعيد.
على الرغم من ارتفاع منسوب التهديدات التصعيدية من قبل القيادات الإسرائيلية، فهي ما زالت مرعوبة من سيناريو الحرب الشاملة، وما ستجلبه من دمار يفوق بأضعاف خسائر السابع من أكتوبر، التي تكبدتها الدولة الصهيونية. وما يزيد من التردد الإسرائيلي هو غياب رؤية لنهاية الحرب إن هي نشبت، وكذلك ما إذا كانت إسرائيل ستحقق بالحرب أكثر ما تستطيع الوصول إليه بالجهد الدبلوماسي. وبما أن إسرائيل لم تعد تتحمل استمرار حرب الاستنزاف ونزوح حوالي 100 ألف عن مستوطناتهم الحدودية من جهة، وتهاب الحرب الشاملة المدمّرة الفتّاكة من جهة أخرى، فهي تسعى حاليا إلى التصعيد باتجاه أعلى من السقف القائم لحرب الاستنزاف وأقل من عتبة إشعال فتيل الحرب الشاملة. وهي تأمل أن يؤدي التصعيد إلى زيادة الضغط على حزب الله ليقبل بشروط إسرائيل المتمثلة بتطبيق تفسيرها للقرار 1701، بما يشمل ابتعاد قوات حزب الله الى خلف نهر الليطاني، وضمان عدم عودتها بنشر قوات دولية ولبنانية رسمية، بكفالة دولية ملزمة.
الاتجاه العام في إسرائيل هو التصعيد على الجبهة اللبنانية. لكن على الرغم من تزايد المطالبة بالحرب الشاملة، فإن القيادة الإسرائيلية تفضل تفاديها. حزب الله من جهة أخرى أوضح مرارا وتكرارا أنه لا ينوي المبادرة إليها. لكن للتهديدات منطقها وللتصعيد تبعاته التي من الممكن أن تخرج عن السيطرة. تحاول إسرائيل في هذه المرحلة إشعال المزيد من النار واختلاق حالة أزمة لجر الوسطاء الدوليين للتدخل لإيجاد حل يرضيها. ولكن الحزب يعلن ليل نهار بأنه لن يوقف الاقتتال حتى تنتهي حرب الإبادة في غزة، وعليه لن تكون قبل ذلك هدنة تمهد الطريق لوساطة من أي نوع.
ما زالت معظم الأسباب، التي منعت إسرائيل من شن حرب شاملة على لبنان، قائمة ومؤثرة الى الآن. في مقدمتها الموقف الأمريكي، الذي يعارض الحرب بشدة، خشية التورط فيها عشية الانتخابات الرئاسية. وإسرائيل بحاجة ماسة لان تنصب الولايات المتحدة غطاء عسكريا يردع إيران عن التدخل، وتوفر لها حماية دبلوماسية وتزودها بما تحتاجه من أسلحة ومن ذخائر، وتنشر شبكة أمان للاقتصاد الإسرائيلي، وتضمن عند الحاجة تدخلا لوقف الحرب. من غير كل هذا لن تشن إسرائيل حربا شاملة، لكنّها تتجه نحو التصعيد المنضبط تحت العتبة.
كاتب وباحث فلسطيني